للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإيجاب التقديمُ، فكذلك مع النفي، فجرى النفي هنا مجرى الإيجاب، كما جرى مجراه في "لَنْ" إذ لم يُتلق به القَسَم. ألا ترى أنك لا تقول: و"الله لن أضربَ"، كما لا تقول: "والله سأضرب"؟ وكذلك لا تقول: "والله لم أضرب" كما لا تقول: "والله ضربتُ". وأمّا "لا"، وإن كانت قد يُتلقى بها القسم، وتدخل على الأسماء والأفعال، فإنّها تصرَّفت تصرّفًا ليس لغيرها بدخولها على المعرفة والنكرة، وأنّه يتخطاها العاملُ، فيعمل فيما بعدها، نحوَ قولك: "خرجت بلا زادٍ"، و"عُوقبتُ بلا جُرْم"، فكما يعمل ما قبلها فيما بعدها، فكذلك يعمل ما بعدها فيما قبلها. وأجاز ذلك الكوفيون (١)، وإليه ذهب أبو الحسن بن كَيْسان، فيقولون: "قائمًا ما زال زيد"، وكذلك ما كان في معناها من أخواتها، فإنّهم يشبّهونها بـ"لمْ".

وأمّا "ما دامَ"، فإنّها لا تستعمل إلّا بلفظ الماضي كما كانت "لَيْسَ" كذلك. ولا يتقدّمها إلّا فعلٌ مضارع، نحوُ: "لا أُكلِّمك ما دام زيدٌ قائمًا". ولا يتقدّم عليها نفسِها، لأنّ "ما" فيها مصدريَّةٌ لا نافيةٌ، وذلك المصدرُ بمعنى ظرف الزمان. ألا ترى أنك إذا قلت: "لا أفعلُ هذا ما دام زيدٌ قائمًا"، كان التقدير فيه: زمنَ دوامِ قيامِ زيد، كقولك: "جئتُك مَقْدَمَ الحاجّ، وخفوقَ النجم"، أي: زمنَ خفوق النجم، وزمنَ مقدم الحاجّ؟ إلّا أنه حذف المضاف الذي هو الزمان للعلم به، وأُقيم المصدر المضاف إليه مقامه.

وإذا كانت "ما" في "ما دام" بمنزلة المصدر، كان ما يتعلق بها من صلتها وتمامِها، فلا يتقدّم عليها. وأمّا تقديم أخبارها على أسمائها، فجائزٌ بلا خلاف, لأنّ المقتضى لجواز ذلك موجود، وهو كون العامل فعلاً، ولا مانعَ هناك، فلذلك جاز أن تقول: "ما زال قائمًا زيدٌ"، و"ما انفكّ عالمًا بكرٌ".

وأمّا "لَيْسَ"، ففيها خلافٌ، فمنهم من يُغلّب عليها جانبَ الحرفية، فيُجريها مجرى "ما" النافية؛ فلا يُجيز تقديمَ خبرها على اسمها، ولا عليها، لا يقولون: "ليس قائمًا زيدٌ"، و"لا قائمًا ليس زيدٌ". وعليه حمل سيبويه (٢) قولَهم: "ليس الطيبُ إلّا المسكُ"، و"ليس خَلْقُ الله أشْعَرُ منه". أجراها مجرَى "ما".

ومنهم من أجاز تقديمَ خبرها عليها نفسِها، نحوَ: "قائمًا ليس زيدٌ"، وهو قول سيبويه (٣) والمتقدّمين من البصريين (٤)، وجماعةٍ من المتأخرِين كالسيرافيّ، وأبي عليّ،


(١) انظر المسألة السابعة عشرة في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص ١٥٥ - ١٦٠.
(٢) الكتاب ١/ ١٤٧.
(٣) الكتاب ١/ ١٤٧.
(٤) انظر المسألة الثامنة عشرة في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص ١٦٠ - ١٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>