للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: قد اضطربت آراءُ الجماعة في هذه الآية، فمنهم مَن نظر إلى المعنى، وأعرض عن اللفظ، وذلك أنه حمل الكلام على نفي المقاربة, لأنّ "كاد" معناها "قارَبَ"، فصار التقدير: لم يُقارِب رُؤْيَتَها، وهو اختيار الزمخشريّ. والذي شجّعهم على ذلك ما تضمّنته الآيةُ من المبالغة بقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (١). ومنهم من قال: التقدير: لم يَرَها، ولم يكد. وهو ضعيف؛ لأنّ "لَمْ يَكَدْ" إن كانت على بابها، فقد نُقض أوّلُ كلامه بآخره، وذلك أن قوله: "لم يرها" يتضمّن نفي الرؤية، وقوله: "ولم يكد" فيه دليلٌ على حصول الرؤية، وهما متناقضان. ومنهم من قال: إنّ "يكد" زائدةٌ، والمراد: لم يرها، وعليه أكثر الكوفيين. والذي أراه أنّ المعنى أنه يراها بعد اجتهاد ويَأسٍ من رؤيتها. والذي يدلّ على ذلك قول تأبّط شرًا [من الطويل]:

فأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كدتُ آئِبًا (٢)

والمراد: ما كِدتُ أؤُوبُ، كما يُقال: "سلمتُ وما كدتُ أسْلَمُ". ألا ترى أن المعنى: أنه آبَ إلى فهم، وهي قبيلةٌ، ثمّ أخبر أنّ ذلك بعد أن كاد لا يؤوب؟ وعلّةُ ذلك أنّ "كادَ" دخل لإفادة معنى المقاربة في الخبر، كما دخلت "كانَ" لإفادة الزمان في الخبر. فإذا دخل النفي على "كاد" قبلها كان أو بعدها، لم يكن إلّا لنفي الخبر، كأنك قلت: "إذا أخرج يده يكاد لا يراها"، فـ"كاد" هذه إذا استُعملت بلفظ الإيجاب، كان الفعل غيرَ واقع، وإذا اقترن بها حرفُ النفي، كان الفعل الذي بعدها قد وقع، هذا


= اللغة: النأي: الهجران والبعد. رسيس الهوى: أثر الحبّ. يبرح: يبقى.
المعنى: إذا ابتعد العشّاق عمّن يحبّون فقَدْ يسلونهنّ فيزول عنهم ما يعانونه، أمّا أنا فحبّها راسخ في قلبى لن يزول.
الإعراب: "إذا": ظرف زمان يتضمّن معنى الشرط خافض لشرطه متعلق بجوابه. "غير": فعل ماضٍ مبنيّ على الفتح. "الهَجْر": فاعل مرفوع بالضمّة. "المحبّيين": مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم. "لم": حرف نفى وجزم وقلب. "يكد": فعل مضارع ناقص مجزوم "رسيس": اسم "يكد" مرفوع بالضمة، وهو مضاف. "الهوى": مضاف إليه مجرور. "من حبّ": جارّ ومجرور متعلّقان بمحذوف حال من "رسيس الهوى"، وهو مضاف. "مية": مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف. "يبرح": فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازًا تقديره: هو.
وجملة "إذا غيّر الهجر ... ": ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة "غيّر الهجر ... ": في محلّ جرّ بالإضافة. وجملة "لم يكد ... ": جواب شرط غير جازم لا محلّ لها من الإعراب. وجملة "يبرح": في محلّ نصب خبر "يكد".
والشاهد فيه: أنه ينفى بـ"لم يكد" مقاربة الفعل، وأن في هذا مبالغة عن نفى الفعل نفسه، فهو ينفي هنا مقاربة زوال رسيس الهوى من حبّ ميّة، ليدلّ بذلك على فضل تمكّن حبّها من قلبه.
(١) النور: ٤٠.
(٢) تقدم بالرقم ٩٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>