للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحكى الفرّاء أن أعرابيًا بُشّر بمولودة، فقيل له: "نعمَ المولودةُ مولودتُك"، فقال: "والله ما هي بنِعْمَ المولودةُ". وحكوا:"يا نِعْمَ المَوْلَى، ونِعْمَ النصيرُ". فنداؤُهم إيّاه دليل على أنه اسمٌ. والحقّ ما ذكرناه. وأمّا دخول حرف الجرّ، فعلى معنى الحكاية، والمراد: ألست بجارٍ مقولٍ فيه: "نِعْمَ الجارُ"، وكذلك البواقي. وأمّا النداء فعلى تقدير حذف المنادَى، والمعنى: يا مَنْ هو نعم المولى ونعم النصيرُ، كما قال سبحانه: {ألَا يَا اسْجُدُوا} (١)، والمراد: ألا يا قومُ اسجدوا، أو يا هؤلاء اسجدوا.

وفيها أربع لغات: "نَعِمَ" على زنة "حَمِدَ" و"عَلِمَ"، وهو الأصل، و"نِعِمَ" بكسر الفاء والعين، و"نَعْمَ" بفتح الفاء، وسكون العين، و"نِعْمَ" بكسر الفاء وسكون العين. وليس ذلك شيئًا يختصّ هذَيْن الفعلَيْن، وإنّما هو عمل في كلّ ما كان على "فَعِلَ" ممّا عينه حرفُ حلق، اسمًا كان أو فعلًا، نحوَ: "فَخِذٍ"، وَ"شَهِدَ"، فإنّه يسوغ فيهما، وفي كلِّ ما كان مثلهما أربعةُ أوجه. والعلّةُ في ذلك أن حرف الحلق يُستثقل إذا كان مستفِلًا وإخراجُه كالتهوّع، فلذلك آثروا التخفيفَ فيه، وكلُ ما كان أشدّ تسفّلًا، كان أكثرَ استثقالًا.

فمن قال: "نَعِمَ"، وَ"بَئِسَ"، بكسر العين وفتح الفاء، فقد أتى بهما على الأصل، وقد قرأ: {فَنِعِمَّا هِيَ} (٢) ابنُ عامر وحمزةُ والكسائيّ (٣)، والذي يدلّ أن هذا البناء هو الأصل أنه يجوز فيه أربعة أوجه. وذلك إنما يكون فيما كان على "فَعِلَ" ممّا عينه حرف حلق، وأيضًا فإنّه لا يخلو من أن يكون "فَعَلَ"، أو "فَعِلَ"، أو"فَعُلَ"، فلا يكون "فَعَلَ" بالفتح، إذ لو كان مفتوح العين، لم يجز إسكانُه لخفّة الفتحة، ألا ترى أنهم لم يقولوا في نحو "جَبَلٍ"، و"حَمَلٍ": "جَبْلٌ"، و"حَمْلٌ"، كما قالوا: "كَتْفٌ"، و"عَضْدٌ" في "كَتِفٍ"، و"عَضُدٍ"؛ وكسرُ أوّلهما دليلٌ على أنه "فَعِلَ" دون "فَعُلَ" بالضمّ؛ لأنّ الثاني لو كان مضمومًا، لم يجز كسرُ الأوّل؛ لأنه لا كسرةَ بعده. فيكسرَ الأوّل للكسرة التي بعده، وليس في أبنية الثلاثيّ من الأفعال الماضية التي تسمّى فاعلوها، إلّا هذه الأقسام الثلاثة، فصحّ بما ذكرناه أنّه "فَعِلَ" مثلُ "عَلِمَ".


= وجملة "ألست بنعم ... ": ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة "نعم الجار": في محلّ نصب مفعول به (أو نائب فاعل) لاسم المفعول المقدر بـ"مقول". وجملة "يؤلف بيته": في محلّ نصب حال.
والشاهد فيه قوله: "بنعم" حيث دخلت "الباء" على "نعم" وهذا دلالة الاسمية، لا الفعلية كما يقول البصريون.
(١) النمل: ٢٥.
(٢) البقرة: ٢٧١.
(٣) وكذلك حمزة، وخلف، والأعمش.
انظر: البحر المحيط ٢/ ٣٢٤؛ وتفسير القرطبي ٣/ ٣٣٤؛ والكشاف ١/ ١٦٣؛ والنشر في القراءات العشر ٢/ ٢٣٥؛ ومعجم القراءات القرآنية ١/ ٢١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>