للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك من قبل أن "حبّذا" لمّا رُكّب الفعل فيه مع الفاعل، لم يجز تأنيث الفعل، ولا تثنيته، ولا جمعه؛ لأنه قد صار في منزلةِ بعض الكلمة، وبعضُ الكلمة لا يجوز فيه شيء من ذلك. والذي يدل أنهما بُنيا، وجُعلا شيئًا واحدًا، أنه لا يجوز أن يفصل بين الفعل فيه وبين "ذَا" بشيء، ولا يُقال: "حَبَّ في الدار ذَا"، ولا "حَبَّ اليومَ ذا".

فإن قيل: لِمَ خُصّ "حبّ" بالتركيب مع "ذا" من بين سائر الأسماء؟ قيل: لأن "ذا" اسم مبهم يُنْعَت بالأجناس، وحكمُ "حبّ" هنا كحكمٍ "نعم"، فركبوه مع "ذا" لينوب عن أسماء الأجناس، إذ لا يُنْعَت إلَّا بها، والنعتُ والمَنعوتُ شيء واحد أيضًا، فإن "ذَا" مبهم، فصار بمنزلة المضمر في "نعم"؛ ولذلك فُسّر بالنكرة كما يفسّر في "نعم"، فتقول: "حبّذا رجلًا"، كما تقول: "نعم رجلًا"، فقياسهما واحدٌ. فلمّا صار "حبّذا" في الحكم كلمة واحدة؛ غلّب عليها بعضُهم جانبَ الاسمية، واعتقدوا أنه اسمٌ له موضع من الإعراب. وموضعُه هنا رفعٌ بالابتداء وما بعده من الاسم المرفوع الخبرُ. وليس في العربّية فعلٌ وفاعلٌ جُعلا في موضعِ مبتدأ إلَّا "حبّذا"، لا غير.

فإن قيل: ولِمَ غلّب هؤلاء معنى الاسمية فيه؟ قيل: لأن الاسم أقوى من الفعل، والفعلُ أضعف، فلمّا رُكّبا، وجُعلا شيئًا واحدًا، غُلّب جانب الاسم لقوّته وضُعْف الفعل، واستدلّوا على اسميّته بكثرة نحوِ قولهم: "يا حبّذا". قال الشاعر [من البسيط]:

١٠٥٢ - يا حبّذا جَبَلُ الرَّيانِ مِن جَبَلٍ ... وحبّذا ساكِنُ الرّيانِ مَن كانا

وقال الآخر [من الرجز]:

يا حبّذا القَمْراءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثلُ مُلاءِ النَّسّاجْ (١)

وهو كثير.


١٠٥٢ - التخريج: البيت لجرير في ديوانه ص ١٦٥؛ والدرر ٥/ ٢٢٠؛ وشرح شواهد المغني ٢/ ٧١٣؛ ولسان العرب ١/ ٢٩١ (حبب)؛ ومعجم ما استعجم ص٦٩٠، ٨٦٧؛ والمقرب ١/ ٧٠؛ وشرح شواهد المغني ٢/ ٧١٣؛ وبلا نسبة في خزانة الأدب ١١/ ٩٧١ - ١٩٩.
الإعراب: "يا": حرف نداء، والمنادى محذوف. "حبَّذا": فعل ماض، و"ذا": اسم إشارة مبني في محلّ رفع فاعل. "جبل": مبتدأ مؤخر مرفوع. "الريان": مضاف إليه مجرور. "من": حرف جرّ زائد. "جبل": اسم مجرور لفظًا منصوب محلًا على أنه تمييز. "وحبذا ساكن الريان": تعرب إعراب سابقتها. "من": اسم موصول مبني في محلّ رفع خبر مقدّم لِـ "كانا". "كانا": فعل ماضٍ ناقص، واسمه ضمير مستتر فيه جوازًا تقديره: "هو". والألف للإطلاق.
وجملة "حبذا": استئنافية لا محل لها من الإعراب، وجملة "حبّذا": الثانية معطوفة لا محلّ لها من الإعراب، وجملة "من كان": في محل رفع نعت لِـ "ساكن"
والشاهد فيه قوله: "يا حَبَّذا"، وهو كثير في كلام العرب ممّا يُغلِّب جانب الاسميّة في "حبّذا".
(١) تقدم بالرقم ١٠٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>