للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالدرهم ابتداء الأخذ إلى أن لا يبقى مته شيءٌ، ففي كل تبعيض معنى الابتداء، فالبعضُ الذي انتهاؤه الكلُّ.

وأمّا التي للتبيين، فهي تخصيص الجملة التي قبلها كما أنها في التبعيض تخصيص الجملة التي بعدها، فكان فيها ابتداء غايةِ تخصيص كما كان في التبعيض.

وأمّا زيادتها لاستغراق الجنس في قولك: "ما جاءني من رجل"، فإنّما جعلتَ "الرجل" ابتداءَ غايةِ نفيِ المجيءِ إلى آخِر الرجال، ومن ها هنا دخلها معنى استغراق الجنس.

وقد أضاف بعضهم إلى أقسامها قسمًا آخر، وهو أن تكون لانتهاء الغاية، وذلك بأن تقع مع المفعول، نحوَ: "نظرت من داري الهِلالَ من خَلَل السحاب"، و"شممت من داري الرَّيْحانَ من الطريق "، فـ "مِن" الأُولى لابتداء الغاية. والثانية لانتهاء الغاية، قال ابن السرّاج: وهذا خَلْط معنى "مِنْ" بمعنى "إلى"، والجيّدُ أن تكون "مِن" الثانيةُ لابتداء الغاية في الظهور، وبدلًا من الأولى.

فإن قلت: فقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} (١)، فقد تكرّرت "مِنْ" في ثلاثة مواضع، فما معناها في كل موضع منها؟ قيل: إنّ الأُولى لابتداء الغاية، والثانيةُ يجوز فيها وجهان: أحدهما التبعيض على أن "الجبال" بَرَدٌ تكثيرًا له، فينزّل بعضَها. والآخر: على أن المعنى من أمثال الجبال من الغَيْم، فيكون هذا المعنى لابتداء الغاية، كقولك: "خرجت من بغدادَ من داري إلى الكوفة". وأما الثالثة فتكون على وجهَيْن: التبعيض والتبيين؛ أمّا التبعيض فعلى معنى ينزّل من السماء بعضَ البرد؛ وأمّا التبيين فعلى أنّ الجبال من بردٍ. وهذا على رأي سيبويه، ومن لا يرى زيادةَ "مِنْ " في الواجب، وأمّا على رأي أبي الحسن، ومن يرى رأيَه، فيحتمل ثلاثةَ أوجه:

أحدها: أن تكون "مِنْ" الأُوُلى لابتداء الغاية، وموضعُها نصب على أنه ظرفٌ، والثانية زائدةٌ على أنه مفعول به، فتكون "الجبال" على هذا تعظيمًا لِما ينزل من السماء من البرد والمطر، و"فِيها" من صفة "الجبال"، وفيه ضميرٌ من الموصوف. و"مِن" الثالثةُ لبيان الجنس، كأنّه بين من أي شيء هو المُكثَّر، كما تقول: "عندي جبالٌ من مالٍ"، فتُكثِّر ما منه عندك، ثمّ تُبيِّن المُكثَّر بقولك: "من المال". ويجوز أن تكون "مِن" الثالثةُ زائدة، وموضعها رفيع بالظرف الذي هو"فِيهَا"، ولا يكون فيه ضميرٌ على هذا, لأنه قد رفع ظاهرًا، وذلك في قول سيبويه والأخفش جميعًا؛ لأن سييويه لا يُعْمِل الظرف حتى يعتمد على كلام قبله، وههنا قد اعتمد على الموصوف، والأخفشُ يُعْمِله معتمدًا وغيرَ


(١) النور: ٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>