للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفعل، والأصلُ: "أن كنتَ منطلقًا انطلقتُ معك"، أي: لأنْ كنتَ. فموضعُ "أنْ" نصبٌ بـ "انطلقتُ"، لما سقطت اللامُ، وصل الفعلُ فنصب. وأما "أنْ" في البيت فموضعها أيضًا نصبٌ بفعل مضمر دل عليه "فإن قومي لم تأكلهم الضبعُ" ويفسره، ولا يكون منصوبًا بـ "لَم تأكلهم الضبعُ"؛ لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها.

وأمّا الضرب الثاني: وهو أن تزاد لمجرد التأكيد غيرَ لازمة للكلمة، فهو كثير في التنزيل والشعر وسائر الكلام. ومن ذلك قولهم: "غضبتَ من غيرِ ما جُرْم"، فَـ "ما" زائدةٌ، والمرادُ من غير جرم، و"جئتَ لأمر ما"، فـ "ما" زائدةٌ، والمعنى على النفي، والمراد: "ما جئتَ إلَّا لأمر". وهو شبية بقولهم: "شَرّ أهَرَّ ذا نابٍ" (١)، أي: ما أهرّه إلَّا شرٌّ، كأن شخصًا جاء في غير المعتاد، فقيل له ذلك.

وقيل: "إنما زيدًا منطلقٌ"، فيجوز في "إن" الإعمال والإلغاءُ، فمَن ألغى ورفع وقال: "إنما زيدٌ منطلقٌ"، كانت "ما" كافة من قبيل الضرب الأول، ولم تكن من هذا الضرب. ومَن أعملها، وقال: "إنما زيدًا منطلقٌ"، كانت مُلْغاة، والمرادُ بها التأكيدُ، ولذلك ذكرها هنا.

وقالوا: "أيْنَما تَجْلِسْ أجْلِسْ"، و"متى ما تقم أقم" فـ "ما" فيهما زائدة مؤكدة، وذلك أن "أينَ"، و"مَتى" يجوز المجازاةُ بهما من غير زيادة "ما" فيهما، وذلك أنهما ظرفان، فـ "أينَ" من ظروف المكان، وهو مشتملٌ على جميع الأمكنة مبهمٌ فيها، و"مَتى" مبهم في جميع الأزمنة. فلما كانا مبهمَين، ضارعا حروفَ المجازاة, لأن الشرط إبهامٌ، فلذلك جازت المجازاةُ بهما لِما فيهما من الإبهام. وليسا مضافين إلى ما بعدهما، فتمتنعَ المجازاةُ بهما. وإذا كانت المجازاة بهما من غيرِ "ما" جائزة، كان إلحاقُ "ما" بهما لَغوًا على سبيل التأكيد، فلذلك عَد "أينما" في هذا الضرب.

والذي يدل على صحةِ ما ذكرناه أن "حَيث" و"إذ"، إِذا كانا مضافَين إلى ما بعدهما من الجُمَل، لم تجز المجازاةُ بهما، إلَّا بعد دخولِ "ما" عليهما، نحو قولك: "حيث مَا تجلسْ أجلس". وذلك من قبل أن "حَيْثُ" اسمٌ، وقد كان يُضاف إلى ما بعده، كما يُضاف "بَعْدَ" إلى ما بعده. فلما أُريدت المجازاةُ بهما، أُزيلت الإضافة عنهما بأن كُفّت عنهما بـ "ما"، فعملا حينئذ في الفعل الواقع بعدهما الجزمَ. والدليلُ على أنها كافةٌ هنا، وليست المؤكدةَ، لزومُها في الجزاء كما لزمت في الاسم لما صُرف ما بعدها إلى الابتداء، وذلك أن "حَيثُ" ظرفُ مكان مُشبةٌ بـ "حِينَ" من ظروف الزمان، وكما أن "حِينَ" مضافٌ إلى الجملة كذلك أُضيف "حَيْثُ" إلى الجملة. وإذا أُضيفت إلى الجملة، صار


(١) هذا القول من أمثال العرب، وقد تقدم تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>