للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قام"؟ وذلك من قِبَل أن سيبويه يفرق بين الهمزة و"هَلْ". فعنده إذا قلت: "أزيدٌ قام"؟ جاز أن يرتفع الاسم بالابتداء جوازًا حسنًا. وإذا قلت: "هل زيدٌ قام"؟ يقع إضمارُ الفعل لازمًا, ولم يرتفع الاسمُ بعده إلَّا بفعل مضمر على أنّه فاعلٌ، وقبُح رفعُه بالابتداء. ولم يجز تقديمُ الاسم ههنا إلَّا في الشعر، فلذلك مثّله بـ "هَلْ" دون الهمزة.

وإنمّا قبُح رفعُه بعد "هَلْ" بالابتداء، ولم يقبُح بعد الهمزة؛ وذلك من قِبَل أن الهمزة أمُّ الباب، وأعمُّ تصرُّفًا، وأقواها (١) في باب الاستفهام؛ لأنها تدخل في مواضع الاستفهام كلِّها، وغيرُها ممّا يُسْتفهم به، يلزَم موضعًا، ويختصّ به، وينتقل عنه إلى الاستفهام، نحوَ: "مَنْ" و"كَمْ" و"هَلْ"، فَـ "مَنْ": سؤالٌ عمّن يعقِل. وقد تنتقل فتكون بمعنَى "الذِي"، و"كَمْ": سؤالٌ عن عَدَدٍ، وقد تُستعمل بمعنَى "رُبَّ"، و"هَلْ": لا يُسْأَلُ بها في جميع المواضع. ألا ترى أنّك تقول: "أزيدٌ عندك أم عمرٌو"؟ على معنَى "أيهمَا عندك ولم يجز في ذلك المعنى أن تقول: "هل زيدٌ عندك أم عمرٌو؟ " وقد تنتقل عن الاستفهام إلى معنَى "قَدْ نحوَ قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (٢)، أي: قد أتى. وقد تكون بمعنَى النفي، نحو قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ} (٣).

وإذ كانت الهمزةُ أعمَّ تصرُّفًا، وأقوى في باب الاستفهام، توسّعوا فيها أكثرَ ممّا توسّعوا في غيرها من حروف الاستفهام، فلم يستقبحوا أن يكون بعدها المبتدأُ والخبرُ، ويكونَ الخبرُ فعلًا. واستُقبح ذلك في غيرها من حروف الاستفهام لقلّةِ تصرُّفها.

فإن قيل: إذا كان الاستفهامُ يقتضي الفعلَ، على ما أقررتم، في بالُكم ترفعون بعده المبتدأ والخبرَ؟ فتقولون: "أزيدٌ قائمٌ"؟ و"هل زيد قائمٌ فالجوابُ: أن الجملة قبل دخول الاستفهام تدل على فائدةٍ؛ فدخل الاستفهامُ سؤالًا عن تلك الفائدة.

وذكرُ قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (٤)؛ فـ "أحَد" هنا مرتفعٌ بفعل مضمر تفسيرهُ الظاهرُ الذي هو"استجارك والتقديرُ: "إن استجارك أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه"، وذلك أنّ "إنْ" في باب الجزاء بمنزلة الألف في باب الاستفهام. وذلك لأنّها تدخل في مواضع الجزاء كلَّها، وسائرُ حروف الجزاء نحوُ: "مَنْ" و"مَتَى" لها مواضعُ مخصوصةٌ؛ فـ "مَنْ": شرطٌ فيمن يعقل، و"مَتَى": شرطٌ


(١) في الطبعتين: "وأقواها"، وقد صحَّحهتها طبعة ليبزغ ص ٩٠٥: "أقواهما"، وأعتقد أن هذا التصحيح غير صحيح، فالمقصود أن الهمزة أقوى أدوات الاستفهام.
(٢) الإنسان: ١.
(٣) الرحمن: ٦٠.
(٤) التوبة: ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>