للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحروف المستحسنة حتى كملت حروفُ المُعْجَم خمسةً وثلاثين حرفًا. كأنّهم فعلوا ذلك هنا كما فعلوا في الادغام، وقرّبوا بعضَها من بعض، نحو قولك في "مَصدَرِ": "مَزْدَرٌ"، فقرّبوا الصاد من صوت الزاي ليتناسب الصوتان، ولا يتنافرا. وذلك أن الصاد مُقارِبةُ الدال في المخرج، وبينهما مع ذلك تنافٍ وتباينٌ في الأحوال والكيفيّة. وذلك أنّ الصاد مهموسة، والدال مجهورة، والصاد مستعلِية مُطْبقة، والدال ليست كذلك، والصاد رِخوَةٌ، والدال شديدة، والصاد من حروف الصغير, والدال ليست كذلك. فلمّا تَباينا في الأحوال هذا التباينَ، أرادوا أن يفرقوا بينهما في بعض الأحوال على حدّ تقاربهما في المخرج استثقالًا لتحقيق الصاد مع الدال مع ما ذكرناه من المباينة، فأبدلوا من الصاد الزاء لأنّها من مخرجها، وهما من حروف الصفير, وتُوافِق الدال في الجَهْر، فيتناسب الصوتان ولا يختلفان. ونحو ذلك قراءةُ من قرأ: {زِراط} (١) في {صِراط}. وقالوا: "لم يُحْرَمْ من فزدَ له" (٢) والمراد: "فُصِدَ"؛ لأنّ العرب كانت إذا جاء أحدَهم ضَيْفٌ، ولم يحضرهم قِرَى فصدوا بعضَ الإبل، وشرب الضيفُ من ذلك الدمِ، فلم يُحْرَم؛ لأنّه وجد ما يسُدّ مَخْمَصَتَه. وكذلك في الإمالة قرّبوا الألف من الياء؛ لأنّ الألف تطلب من الفم أعلاه، والكسرة تطلب أسفلَه وأدناه، فتنافرا. ولمّا تنافرا، أُجنحت الفتحةُ نحو الكسرة، والألفُ نحو الياء، فصار الصوتُ بين بين، فاعتدل الأمرُ بينهما، وزال الاستثقالُ الحاصل بالتنافر، فاعرفه.

[[أسبابها]]

قال صاحب الكتاب: وسبب ذلك أن تقع بقرب الألف كسرة أو ياءٌ، أو تكون هي منقلبة عن مكسورة أو ياء أو صائرة ياء في موضع، وذلك نحو قولك "عماد" (٣) , و"شملال" و"عالم" و"سيال" و"شيبان" و"هابَ" و"خاف" و"ناب" و"رمى" و"دعا" لقولك: دعى ومعزى وحبلى لقولك معزيان وحبليان.

* * *

قال الشارح: اعلم أنّ الإمالة لها أسبابٌ. وتلك الأسبابُ ستةٌ، وهو أن يقع بقرب الألف كسرةٌ، أو ياءٌ قبله، أو بعده، أو تكون الألف منقلبة عن ياء، أو كسرة، أو مُشبِهة للمنقلب، أو يكون الحرف الذي قبل الألف يُكْسَر في حال وإمالته لإمالته. فهذه أسبابُ الإمالة، وهي من الأسباب المُجوِّزة، لا المُوجِبة. ألا ترى أنّه ليس في العربيّة سببٌ


(١) الفاتحة: ٦، وغيرها. وانظر: البحر المحيط ١/ ٢٥؛ وتفسير القرطبي ١/ ١٤٨؛ ومعجم القراءات القرآنية ١/ ١١.
(٢) هذا القول من أمثال العرب، وقد ورد في الألفاظ الكتابيّة ص ٥٧؛ وجمهرة الأمثال ٢/ ١٩٣؛ وكتاب الأمثال ص ٢٣٥؛ ولسان العرب ٣/ ٣٣٥ (فزد)، ٣٣٦ (فصد)؛ والمستقصى ٢/ ٢٩٤؛ ومجمع الأمثال ٢/ ١٩٢.
والفصيد: دم كان يُؤخَذ من أوداج البعير أو الفرس، ثمّ يُشوى ويُؤكل. والمعنى: لم يُحرم من نال بعضَ حاجته. يضرب في القناعة باليسير.
(٣) وضع النقطة الخالية الوسط (أو الدائرة) تحت الحرف يدلّ على إمالته.

<<  <  ج: ص:  >  >>