للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: قد حذفوا حرف القسم كثيراً تخفيفًا، وذلك لقوّة الدلالة عليه. وإذا حذفوا حرف الجرّ، أعملوا الفعل في المقسم عليه، ونصبوه، قالوا: "الله لأفعلنّ" بالنصب، وذلك على قياس صحيح. وذلك أنّهم إذا عدّوا فعلاً قاصرًا إلى اسم، رفدوه بحرف الجرّ تقويةٌ له، فإذا حذفوا ذلك الحرف إمّا لضرورة الشعر، وإمّا لضرب من التخفيف، فإنّهم يوصلون ذلك الفعل إلى الاسم بنفسه كالأفعال المتعدّية، فينصبونه به، نحو قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (١)، وقولهم: "استغفرت الله ذنبًا"، ويقال: "كِلْتُه"، و"كِلْتُ له" و"وزنتُه"، و"وزنتُ له". يكون من ذلك قول الشاعر [من الوافر]:

تَمُرّون الدِّيارَ ولم تَعُوجُوا ... كَلامُكمُ عليّ إذًا حَرامُ (٢)

وحكى أبو الحسن في غير الشعر: "مررتُ زيدًا"، فكذلك قالوا في القسم: "الله لأفعلنّ". ولا يكادون يحذفون هذا الحرف في القسم مع الفعل، ولا يقولون: "أحلفُ الله"، ولا "أقسمُ الله"، لكنّهم يحذفون الفعل والحرف جميعًا. والقياسُ يقتضي حذفَ الحرف أوّلاً، فأفضى الفعل إلى الاسم، فنَصَبَه، ثمّ حُذف الفعل توسُّعًا لكثرة دَوْر الأقسام. ومن ذلك قولهم: "يمينَ الله"، و"أَمانةَ الله"، والأصلُ: بيمين الله، وبأمانة الله، فحذف حرف الجرّ ونصب الاسم. وأنشد [من الطويل]:

ألَا رُبَّ مَن قَلْبِي له اللهَ ناصِحٌ ... ومَن قَلْبُه لي في الظِّباء السَّوانِحِ

البيت لذي الرمّة، والمعنى: ألا ربّ من قلبي له باللهِ ناصحٌ، أي: أحلفُ باللهِ، فحذف حرف الجرّ الذي هو الباء، فعمل الفعلُ، فنصب. والسانحُ من الظباء: ما أخذ عن يمين الرامي، فلم يُمْكِنه رَمْيُه حتى ينحرف له، فيتشاءم به. ومن العرب من يتيمّن به لأخذه في المَيامِن. وقد جعله ذو الرمّة مَشْؤُومًا لمخالفة قلبها وهَواها لقلبه وهواه، وأنشد [من الطويل]:

فقلتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِدًا ... ولو قَطَعوا رَأسِى لَدَيْكِ وأَوصالي (٣)

البيت لامرئ القيس، والشاهد فيه نصب "يمين الله" بالفعل المضمر يصف أنّه طرق محبوبتَه، فخوّفتْه الرقباء وأمرتْه بالانصراف، فقال هذا الكلام. وأنشد [من الوافر]:

إذا ما الخبز (٤) ... إلخ

قالوا: هو مصنوع. ومعنى "تأدمه": تخلِطه.

فهذا كلّه منصوبَ بإضمارِ "أحلفُ"، أو "أقسِمُ" ونحوه ممّا يُقْسَم به من الأفعال. وإن شئت أضمرت فعلاً متعدّيًا، نحو: "أَذكُرُ"، و"أشهَدُ" وشِبْهَهما. قال ابن السراج: لا


(١) الأعراف: ١٥٥.
(٢) تقدم بالرقم ١٠٦٦.
(٣) تقدم بالرقم ١٠٢٧.
(٤) تقدم بالرقم ١٢٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>