للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

"ذات مرّةٍ"، و"بُعَيْداتِ بَيْنٍ"، فلم يقع موقعَ الأسماء، واختير نصبُها على الظرف إلا أن يتقدّمها موصوفٌ، فحينئذٍ تقول: "سير عليه زمنٌ طويلٌ"، و"سير عليه وقتٌ حديثٌ". ويؤيِّد عندك ضُعْفَ الصفة أنّه لا يحسُن أن تقول: "أتيتُك بجَيدٍ"، وأنت تريد: "بدرهمٍ جيِّدٍ". وتقول: "أتيتُك به جيّدًا"، لما لم تَقْوَ الصفةُ إلّا أن يتقدّم الموصوفُ، جعلوه حالًا.

واعلم اْنّ جميع الأفعال يتعدّى إلى كل ضرب من الأزمنة مُبْهَمًا كان أو مُخْتَصًّا، كما يتعدّى إلى كلّ ضرب من ضروب المصادر، لأنّ دلالته عليهما واحدةٌ، وهي دلالةُ مطابقة، ودلالتُه على كلّ واحد منهما تضمُّنٌ, لأنّ الأفعال صِيغت من المصادر بأقسامِ الزمان، فلمّا استويا في دلالة الفعل عليهما، استويا في تعدّيه إليهما، فتقول: "قمتُ اليومَ"، و"قمت يومًا"، كما تقول: "ضربت ضربًا"، و"ضربت الضربَ الذي تَعْلَمُ".

وأمّا المكان، فكل ما تُصرّف عليه، واستُقرّ فيه من أسماء الأرضين، وهي على ضربَيْن: مُبْهَمٌ، ومُختَصٌّ. فالمبهمُ ما لم يكن له نِهايةٌ، ولا أقطارٌ تحصره، نحو: الجهات الستّ، كخَلْفٍ، وقُدّام، وفَوْقٍ، وتَحْتٍ، ويَمْنَةٍ، ويَسْرَةٍ، ووَراءٍ، ومكانٍ، ونحو ذلك. والمختصُّ ما كان له حَدٌّ، ونِهايةٌ، نحو: الدار، والمَسْجِد، والجامع، والسوق، ونحو ذلك. وليست الأمكنةُ كالأزمنة التي يُعمَل فيها كل فعل، فتُنصبَ نصبَ الظروف، وذلك لأنّ الفعل يدلّ على زمان مخصوص، إمّا ماضٍ، وإمّا حاضرٍ، وإمّا مستقبَلٍ. وإذا دلّ على الخاصّ كان دالآ على المبهم العامّ، لأنّ الخاصّ يدلّ على العامّ وزيادة، إذ العامُّ داخل في الخاص، فكلُّ يوم جُمْعَةٍ زمانٌ، وليس كلُّ زمان يوم جمعة.

والفعلُ إنّما يتعدّى بما فيه من الدلالة، فلذلك يتعدّى كل فعل إلى كل زمان مبهمًا كان أو مختصًا، وليست الأمكنةُ كذلك، لأنّ دلالة الفعل على المكان ليست لفظيّةً، وإنّما هي التزامُ ضرورة أنّ الحَدَثَ لا يكون إلّا في مكان، ولا يدل على أن ذلك المكان الجامعُ، أو مَكةُ، أو السوقُ، ولذلك يتعدّى إلى ما كان مبهمًا منه لدلالته عليه. تقول: "جلستُ مجلِسًا، ومكانًا حسنًا"، و "وقفتُ قُدّامَك، ووَراءك"، فتنصب ذلك كلَّه على الظرف. فإن قيل: فأنت تزعم أنّ الفعل يعمل بحَسْبِ دلالته، وليس في الفعل دلالةٌ على مكان حسن، ولا على قُدّامِ زيد، ولا على وَرائه، فالجوابُ أنّ الفعل غيرَ المتعدّي إنّما يتعدّى إلى المكان المبهمَ. وقد ذكرنا أنّ المبهم ما ليس له نِهايةٌ ولا أقطارٌ تحصُره. وأنت إذا قلت: "قمتُ مكانًا حسنًا"، لم ينحصر بالنهاية والحدودِ. وكذلك إذا قلت: "قمت خَلْفَ زيد"، لم يكن لذلك الخلف نهايةٌ تَقِفُ عليها. وكذلك إذا قلت: "قُدّامَ زيد" لم يكن لذلك حَدٌّ ينتهي إليه، فكان مبهمًا من هذه الجهة، فانتصب على الظرف بلا خلاف. وقال أبو العباس: إذا قلتَ: "جلستُ مكانًا حسنًا"، و"قمت خلفَ زيد"، فالفعلُ إنّما تعدى إلى مكان مبهم، وإنّما نَعَتَّهُ بعد أن عمل فيه الفعلُ. وكذلك "جلست خلفَك"، و"وراءَك" لأن "خلفًا" لا ينفكّ منه شيءٌ أن يكون خلفَ واحد، وإنّما أضافه بعد أن كان

<<  <  ج: ص:  >  >>