للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وساغ ذلك, لأنّ المقادير إذا انفردتْ، كانت نَعْتًا لِما قبلها لِما تَضمّنَ لَفْظُها من الطُّول والقَصْرِ، والقِلّةِ والكثرةِ، فإذا قال: "رأيت ثوبًا ذِراعًا"، فكأنّه قال: "قصيرًا"، وإذا قال: "رأيتُ ثوبًا خمسين ذراعًا"، فكأنّه قال: "طويلًا". وإذا قال: "مررتُ بإبلٍ مائةٍ"، فكأنّه قال: "كثيرةٍ". وكذلك تقول: "مررتُ ببُرٍّ قَفيزٍ"، و"بعَسَل رَطْلٍ"، فيكون جميعُ ما مررتَ به من البرّ قفيزًا واحدًا، وجميعُ ما مررت به من العسل رطلًا واحدًا، إلَّا انّهم قد يُقدِّمون الوصفَ الذي هو المقدارُ لضربٍ من المبالغة وتأكيدِ العِناية به، فيقولون: "عندي راقودٌ خلاًّ، ورطلٌ عسلًا"، ولم يحسن أنّ يُجعل وصفًا لِما قبله من المقدار، إذ كان جَوْهرًا ليس فيه معنى فعلٍ، وكانت إضافةُ الأوّل إليه سائغةً، إذ كان منه، فتقول: "راقودُ خلٍّ، ورطلُ عسلٍ"، والمعنى: مِن خلٍّ، ومِن عسل، كما تقول: "ثوبُ خزٍّ، وخاتمُ ذهبٍ"، والمرادُ: ثوبٌ من خزّ، وخاتمٌ من ذهب.

وإن شئت نوّنت، ونصبت على التمييز على ما تقدّم، وإذا قلت: "عندي عسل رطلٌ، وخلٌّ راقودٌ"، فقد أتيتَ به على الأصل، وإذا قدّمتَ، وقلت: "عندي رطلٌ عسلًا، وراقودٌ خلّا"، فقد غيّرتَهما عن أصلهما لِما ذكرناه من إرادةِ المبالغة والتأكيدِ في الإخبار عن مقدارِ ذلك النوع، فهذا المرادُ من قوله: ألا تراها إذا رجعتَ إلى المعنى متّصفة بما هي منتصبةٌ عنه، يريد أنّها منتصبةٌ بالمقادير التي قبلها, لشَبَهها بأسماء الفاعلين على ما تقدّم، وهذه المقاديرُ الناصبةُ لها أوصافٌ في الحقيقة على ما بيّنّا أنّ الأصل في قولك: "عندي راقودٌ خلًا ورطلٌ زيتًا": عندي خلٌّ راقودٌ، وزيتٌ رطلٌ.

وقوله: "ومناديةٌ على أنّ الأصل كذا"، يريد أنّه مفهومٌ منها معنى الوصفيّة، وإن لم يكن اللفظُ على ذلك، وكذلك القولُ في قولك: "طاب زيدٌ نفسًا"، و"تصبّب عرقًا، وتفقّأ شحمًا" المعنى على وصف النفس بالطّيب، والعَرَقِ بالتصبّب، والشحمِ بالتفقؤ، والشَّيبِ بالاشتعال، فإذا قلت: "طاب زيدٌ نفسًا"، فتقديرهُ: طابتْ نفسُ زيد، وإذا قلت: "تصبّب عرقًا"، فتقديرُه: تصبّب عرقُه، وإذا قلت: "تفقّأ شحمًا زيدٌ"، فتقديرُه: تفقّأ شحمُ زيد، وإنّما غُيرت بأن يُنقَل الفعل عن الثاني إلى الأوّل، فارتفع بالفعل المنقول إليه، وصار فاعلاً في اللفظ، واستغنى الفعلُ به، فانتصب ما كان فاعلاً على التشبيه بالمفعول، إذ كان له به تعلُّقٌ، والفعلُ ينصِب كلَّ ما تَعلّق به بعد رفع الفاعل.

وقوله: "لأنّ الفعل في الحقيقة وصفٌ في الفاعل"، يريد الفعلَ الحقيقىَّ، وهو الحَدَثُ، وذلك وصفٌ في الفاعل، فإذا أخبرتَ عن فاعلٍ بفعل لا يصح منه، كان


= في جب": جملة الشرط غير الظرفي لا محل لها من الإعراب، وفي محل جزم بـ "إنْ" عند بعضهم. وجملة "رقيت": معطوفة على جملة "كنت".
والشاهد فيه قوله: "جب ثمانين قامةً" حيث وصف "جُبّ" بـ"ثمانين"؛ لأنها تنوب مناب طويل أو عميق.

<<  <  ج: ص:  >  >>