للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: فهلّا أعملوا "إلّا" فيما بعدها كما أعملوا حروفَ الجرّ لمّا أَوْصلتِ الفعلَ إلى ما بعدها، فالجوابُ أنّ "إلّا" إنّما لم تعمل جرّا, ولا غيرَه من قبل أنّها لم تخلُص للأسماء دون الأفعال والحروفِ، ألا تراك تقول: "ما جاءني زيدٌ قطُّ إلّا يَقْرَأُ"، و"لا مررتُ بمحمَّد قطّ إلّا يُصَلّي"، و"لا لقيتُ بكرًا إلّا في المسجد"، و"لا رأيتُ خالدًا إلّا على الفرس"، فلمّا لم تخلُص للأسماء، بل باشرتَ بها الأفعالَ والحروفَ كما باشرتَ بها الأسماءَ، لم يجز لها أنّ تعمل جرًّا, ولا غيره، وذلك لأنّ العامل ينبغي أنّ يكون له اختصاصٌ بما يعمل فيه، فلمّا لم يكن لـ "إِلَّا" اختصاصٌ بالاسم، لم يجز لها أنّ تعمل فيه.

وإذا قلت: "قام القومُ"، اقتضى ذلك كلَّ من يدخل تحت عُموم اللفظ، فإذا أتيتَ بالاستثناء بيّنْتَ أنّ مدلولَ الأوّلِ وعُمومَه ليس مرادًا، فاقتضى البيانَ، فنُصب المستثنى لاقتضائه إيّاه على حدِّ اقتضاء "العشرين" ما بعدها إذا قلتَ: "عندي عشرون درهمًا".

وذهب أبو العبّاس المبرّدُ، وأبو إسحاق الزجّاجُ، وطائفةٌ من الكوفيين (١) إلى أنّ الناصب للمستثنى "إلّا" نِيابةً عن "أَسْتَثْنِي"، فإذا قال: "أتاني القومُ إلّا زيدًا"، فكأنّه قال: "أتاني القومُ أستثني زيدًا". وهو ضعيفٌ، لأنّك تقول: "أتاني القومُ غيرَ زيدٍ" فتنصب "غيرًا". ولا يجوز أنّ تُقدّر بـ "أستثني غيرَ زيد"؛ لأنه يُفسِد المعنى، وليس قبلَ "غَيْرَ" حرفٌ تُقيمه مُقامَ الناصب، ولأنّ فيه إعمالَ معنى الحرف، وإعمالُ معاني الحروف لا يجوز، ألا ترى أنّك لا تقول: "ما زيدًا قائمًا" على معنَى "نَفَيْتُ زيدًا قائمًا". وإنّما لم يجز ذلك, لأنهم إنّما أتوا بالحروف نائباتٍ عن الأفعال إيجازًا واختصارًا، فإذا أخذتَ تُعْمِل معاني هذه الحروف كان فيه تطلُّعٌ إلى الأفعال، وفيه نَقْصٌ للغرض، وتراجُعٌ عمّا اعتزموه، فلم يجز ذلك، كما لم يجز الإدغامُ في مثلِ "جَلْبَبَ"، و"مَهْدَدَ", لأنّ فيه إبطالَ غرضهم، وهو الإلحاقُ.

وذهب الفرّاءُ - وهو المشهورُ من مذهب الكوفيين (٢) - إلى أنّ "إلّا" مركَّبةٌ من حرفَيْن: "إِنَّ" التي تنصب الأسماءَ، وترفع الأخبارَ، و"لا" التي للعطف، فصار "إِنَّ لَا" فخُفقّت النون، وادُّغِمتْ في اللام، فأعملوها فيما بعدها عَمَلَيْن، فنصبوا بها في الإيجاب اعتبارًا بـ "إِنَّ"، وعطفوا بها في النفي اعتبارًا بـ "لا". فإذا رفعوا في النفي، فقد أعملوها عَمَلَ "لَا"، فجعلوها عاطفةً، وإذا نصبوا بها في الإيجاب، فقد أعملوها عملَ "إِنَّ"، و"زيدًا" اسمُها، وقد كَفَتْ "لا" من الخبر، والتأويلُ: إِنَّ زيدًا لم يقم. وهو قولٌ فاسدٌ أيضًا، لأنّا نقول: "ما أتاني إلّا زيدٌ" فنرفع "زيدًا" وليس قبله مرفوعٌ يُعطَف عليه، ولم يجز فيه النصبُ، فيبطُلُ تأثيرُ الحرفَيْن معًا.


(١) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين ص ٢٦٠ - ٢٦٥.
(٢) المصدر نفسه ص ٢٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>