للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان له من التنوين. وتقديرُ الإضافة لا يمنع من إدخال التنوين؛ لأن المُعامَلة مع اللفظ، وأما امتناعُ الألف واللام من الدخول عليه؛ فإنما كان لأجْلِ أنّه معرفة، والألفُ واللام لا يدخلان المعارفَ، هذا هو الأصلُ، وامتناعُ الألف واللام من الإضافة غيرِ المَحْضَة إنما كان بالحَمْل على المحضة المُعرَّفةِ، وليس كذلك التنوينُ، فإنّه يكون مع المعرفة، نحو: "زيدٍ" و"عمرو"، ونحوِهما.

وأمّا "قَبْلُ" و"بَعْدُ" ونحوُهما من الظروف؛ فمحذوفٌ منها المضافُ إليه، فإذا قلت: "جئتُ قَبْلُ، وبَعدُ"، فالمرادُ: قبل كذا، وبعدَ كذا، مما قد عَرَفَه المخاطب. قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (١)، والمراد- واللهُ أعلمُ- من قبلِ الأشياء، ومن بَعْدِها، فحُذف ذلك، وهو مرادٌ، فذهب لفظُه، وبقي حُكْمُه، وهو التعريفُ، وبُني الاسم؛ لانّ المضاف إليه من تمام المضاف. فإذا قُطع عنه، فكأنه قد بقي بعضُ الاسم، وبعضُه لا يستحِق الإعرابَ، فقام البناءُ فيه مقامَ العوض، إذ لو عوّضوا النونَ كما في "يومئذٍ"، و"حينئذٍ" ونظائرِهما؛ لم يُؤمَن التباسُه بالمنكور المعرِب، وسنَستقصي الكلامَ عليه في موضعه إن شاء الله.

وقوله: "وقد حُذفا معًا" يريد المضافَ والمضافَ إليه، وذلك إذا تكرّرت الإضافةُ، فمن ذلك مسألةُ الكتاب (٢): "أنتَ منّي فَرْسَخان"، والمرادُ "ذُو مَسافَةِ فرسخَيْن" فحُذف المضاف، والمضاف إليه، وأقيم المضافُ إليه الثاني مُقام المضاف للعِلم به. ومن ذلك قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (٣)، أي: من تُرابِ أثرِ حافرِ فَرَسِ الرسول. ومنه قولُ أبي دُؤاد [من الطويل]:

أَيَا مَن رَأَى لي رَأْيَ بَرْقٍ شَرِيقِ ... أسالَ البِحارَ فانتَحَى للعَقِيقِ (٤)

يصف بَرْقًا، والمرادُ: سُقيَا سَحابِه، أي: سحاب البرق. والضميرُ، إذا كان مفردًا منصوبًا، أو مجرورًا؛ فإته يكون بارزًا، وإذا كان مرفوعًا، يكون مستتِرا، فـ "سُقيَا" فاعلُ "أسالَ" لا "البرقُ"، فإن البرق لا يُسِيل. فلما حُذف المضاف والمضاف إليه معًا، أقيم الضمير المجرور مُقامَ المضاف، وصار مرفوعًا، فاستكن في الفعل حين أُسند إليه الفعل. والبِحارُ: جمعُ بَحرٍ، وهو المكان المتسع، ومنه سُمّي البَحْر بَحْرًا لاتّساعه، وأمّا قول الأسوَد بن يَغفُرَ [من الطويل]:

فأَدْرَكَ إبْقاءَ العَرادةِ ظَلْعُهَا ... وقد جَعَلَتْني مِن حَزِيمَةَ إصْبَعَا (٥)

فالمراد: ذا مَسافةِ إصْبَع، فحذف المضافَ والمضافَ إليه لمّا تَكرّر، وأقام


(١) الروم: ٤.
(٢) الكتاب ١/ ٤١٥.
(٣) طه: ٩٦.
(٤) تقدم بالرقم ٣٩٩.
(٥) تقدم بالرقم ٤٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>