للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رجلٍ، وأيّمَا رجلٍ"، فإنّه يمتنِع حذفُ الموصوف، وإقامةُ الصفة مُقامَه, لأنّ معناه كاملٌ، وليس لفظُه من الفعل. وكذلك لو كانت الصفة جملةً، نحوَ "مررت برجلٍ قام أخوه"، ولقيتُ غلامًا وَجْهُه حسنٌ"، لم يجز حذفُ الموصوف فيه أيضًا؛ لأنّه لا يحسُن إقامةُ الصفة مقام الموصوف فيه. ألا تراك لو قلت: "مررت بقَامَ أخوه"، أو"لقيتُ وَجْهُه حسنٌ"، لم يحسن؟ وربّما جاء شيءٌ من ذلك، وما أقَلَّه! فمن ذلك قولُ النابغة [من الوافر]:

كأنّك من جمالِ بني أُقَيْش ... إلخ

وقبله:

أتَخْذُلُ ناصِرِي وتُعِزُّ عَبْسًا ... أيَرْبُوعَ بنَ غَيْظٍ لِلمِعَنَّ

أراد جَمَلًا من جمال بني أقيش، فحذف الموصوفَ، وأقام الصفة مقامه. وإنّما قال: "من جمال بني أقيش"، لأنَّها وَحْشيةٌ مشهورةٌ بالنُّفور. والشَّنُّ: القِرْبَةُ اليابسةُ. وإذا فُعل بها هذا، كان أشدَّ لنُفورها. وسببُ هذا الشعر أنّ بني عَبْس قتلوا رجلًا من بني أسد، فقتلت بنو أسدٍ رجلَيْن من عَبْس، فأراد عُيَيْنَةُ بن حِصْنٍ الفَزاريُّ أن يُعِين بني عبس، وينقُض الحلْفَ الذي بين بني ذُبْيانَ وبني أسد، وبينهم حلفٌ وتناصُرٌ، فقال: كأنّك من جمال بني أقيش، أي: سريعُ الغَضَب تنفِر ممّا لا ينبغي لعاقلٍ أن ينفر منه. والذي حسّن حذفَ الموصوف ههنا كونُه خبرًا، والخبرُ يكون جملةً، وجارًّا ومجرورًا، نحوَ قولك: "إن زيدًا أبوه قائمٌ"، و"إن زيدًا من الكِرام"، فـ "أبوه قائمٌ" في موضع الخبر، وكذلك الجارُّ والمجرور. ومنه قول أبي الأسْوَد الحِمّانيّ [من الرجز]:

لو قلت ما في قومها ... إلخ

والمراد: إنسانٌ يفضُلها، فحذف الموصوفَ الذي هو المبتدأُ، وأقام الجملة مقامه، يصف امرأةً. فالحَسَبُ: المَآثِرُ، والميسم: الجَمالُ، وهو من الواو، وإنَّما قلبوها ياءً للكسرة قبلها، كأنّه من قولهم: "فلانٌ وَسِيمٌ"، أي: حسنُ الوجه. وقوله: "لم تِيثَم" يريد: تَأْثَم، وإنّما لمّا كسر التاءَ، وجب قلبُ الهمزة ياءً. وإنّما كسروا التاءَ على مذهبِ مَن يرى كسرَ حروفِ المضارعة ما عدا الياءَ. وذلك إذا كان الفعل على "فَعِلَ"، نحوِ "تِعْلَمُ"، و"تِسْلَمُ".

ومثله في حذفِ الموصوف قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} (١)، أي: قومٌ دون ذلك، أو ناسٌ. وقد حمل ناسٌ قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} (٢) على هذا قالوا: تقديرُه: ومن الذين قالوا: إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم. ومثله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} (٣)، والمراد: إنسانٌ له مقامٌ معلومٌ، وقولُه:


(١) الجن: ١١
(٢) المائدة: ١٤.
(٣) الصافات: ١٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>