للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مع الخطيب

لا يرتاب ذو علم أنّ الخطيب مُحسن مصيب في بيان ما أخطأ فيه مَن قَبْله مِن الأئمة، وأنّه بذلك مؤدّ حق الله عزَّ وجلّ وحقّ العلم وأهله، وحق أولئك الأئمة أنفسهم، فإنّهم إنّما أرادوا بيان الحق والصواب، فإذا أخطأ أحد منهم، كان ذلك نقيض ما قصد وأحبّ، فالتنبيه على خطائه ليرجع الأمر إلى ما قصده وأحبه من حقه على كل من له حق عليه.

وكذلك لا يرتاب عارف أنّ الخطيب كان عارفًا بحق العلم وسلف العلماء، وخاصة أولئك الأئمة الذين لولاهم لما كان شيئًا مذكورًا، وأنّه كان محبًّا لهم لا هوى له في الغض منهم والطعن فيهم. ومع هذا فإنّنا لا نبرّئ الخطيب من أن يكون له هوى في إظهار سعة علمه، ودقة فهمه، وعلوّ مكانته، وإذ كان من الوسائل إلى ذلك أن يبين أنّه استدرك على كبار الأئمة، وعرف الصواب فيما أخطأوا فيه، كان يحرص على أن يجد لأحدهم خطأ يعرف هو صوابه فيبين ذلك. إنّنا نظلم الخطيب إذا عبناه بهذا، فإنّ لنفسه عليه حقًّا، فإذا أحبَّ مع أداء الواجب أن يَظْهر قدرُه ويسير ذكرُه، لم يكن عليه في ذلك حرج، كيف وقد يريد بذلك أن ينتفع الناس بعلمه، ويغتنموا الاستفادة من كتبه.

وقد يكون الحامل له على هذا أنّ أهل عصره لم يكن كثير منهم أو أكثرهم يعرفون له حقّه، وينزلونه المنزلة التي تنبغي له، بل منهم من عاداه وآذاه وحاول إهلاكه. ومن يدري؟ فلعلّه كان في ذلك خير كثير للعلم وأهله وللخطيب نفسه، فلعله لو رُزِق التوقير البالغ من أهل عصره ما انبعثت همته