للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قيل: قضية الموقف قريبة، لأن غالب ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الجماعة بأكثر من اثنين. فأما قضيتا التطبيق والرفع، ففيما ذُكِر بُعْد.

قلت: قد فتح الله تعالى ــ وله الحمد ــ بوجه يقرِّب الأمر في الثلاث كلها. وهو أن يقال: كأنه كان من رأي ابن مسعود أن النسخ لا يثبت بالترك وحده، بل يبقى الأول مشروعًا في الجملة على ما يقتضيه حاله. ويرى أن على العالم إذا خشي أن ينسى الناس الأمر الأول أن يسعى في إحيائه.

فأما التطبيق، فقد علم ابن مسعود أنه كان مشروعًا، ثم تُرِك العملُ به. ورأى هو أن تركه ليس نسخًا له، بل إما أن يكون تركه رخصة؛ لأنه فيما يظهر أشقُّ من الأخذ بالرُّكَب. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما يدع الأمر المستحب كراهيةَ المشقة، كما كان يعجِّل صلاة العشاء إذا جمعوا (١)، وأبطأ بها ليلةً، ثم خرج، فصلَّى، وقال: "إنه لَوقتها، لولا أن أشُقَّ على أمتي" (٢). وإما أن يكونا سواءً، والمصلِّي مخيَّر بينهما، وإما أن يكون التطبيق مندوبًا أيضًا وإن كان الأخذ بالركب أفضل. وقد علم ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ربما يدع ما هو في الأصل مندوبٌ، ليبيِّن للناس أنه ليس بواجب. وربما يفعل ما هو في الأصل مكروه، ليبيِّن للناس أنه ليس بحرام. وكان أبو بكر وابن عباس لا يضحُّون، كانوا يَدَعون التضحية ليبيِّنوا للناس أنها ليست بواجبة. فلما رأى ابن مسعود أن الناس قد أطبقوا على ترك التطبيق رأى أنه سنة قد أُمِيتتْ، فأحبَّ إحياءها، ففعَلَه، وأمر


(١) كذا في (ط). والمعنى واضح، ولعله "اجتمعوا".
(٢) أخرجه مسلم (٦٣٨) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري (٧٢٣٩) ومسلم (٦٤٢) من حديث ابن عباس بنحوه.