للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كم مسوِّفٍ قبلك فاجأه الفَواتُ، وسبقته الوفات (١) وضاقت عن نجاته الأوقات، وتقاصرت عن آماله الساعات؛ فأصبح رهينَ رمسه، يعَضُّ على يديه ندَمًا على نفسه!

وكم مغترٍّ بدنياه، مستَرٍّ (٢) بمَحْياه، مسوِّفٍ بمتابِه، مبعِّدٍ لمآبِه، غافلٍ في نومه، جاهلٍ في قومه، تقْلِبُه الدنيا جنبًا على جنب سكرانًا (٣)، ويخادعه الشيطان آنًا فآنًا؛ فما أيقَظَه إلا بغتةُ الأجل، وانقطاعُ الأمل، وانبتاتُ العمل؛ فحلَّ به الندَمُ، بعد زوال القَدَم.

فالعاقلُ من حاسَبَ نفسَه، واغتنم خَمْسَه (٤)، ولاحَظَ رَمْسَه؛ فكان لنفسه صديقًا، لا يسعى إلا في نفعها، ولا يهمُّه غيرُ رفعها، يطرَحُ هواه إلى ما أمر به الله. فمن كان كذلك فاز بالنعيم المقيم، وأمِنَ شرَّ الجحيم.

فليس العاقل من سعى [في] (٥) تكثيرِ ماله، وتهنيءِ عيشه، وتحسينِ ثيابه، وترغيد (٦) أكله وشرابه، وتحليةِ شبابه. كلَّا، والله، وإنما العاقلُ من آثرَ


(١) كذا في الأصل بالتاء المفتوحة مراعاةً للسجع. وانظر (ص ٣٥).
(٢) كذا في الأصل بمعنى "مسرور"، والظاهر أنه عامي.
(٣) كذا في الأصل مصروفًا.
(٤) يشير إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اغتنم خمسًا قبل خمسٍ ... " الحديث. وسيأتي في الخطبة العاشرة.
(٥) ساقط سهوًا.
(٦) يعني توفيرهما. ولم أجده في كتب اللغة. وقد ذكره دوزي في تكملته (٥/ ١٦٦)، وجاء في كلام المتأخرين كقول فتيان الشاغوري (ت ٦١٥):
وأنت يا مطربُ غَرِّدْ فما ... ترغيدُ عيشي غير تغريد