للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشامخ تهب عليه عواصف اليلاء، فلا تلقى إلا قلباً صابراً، وقدماً ثابتاً، وحسبكم شاهداً على هذا: ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من هذه الشدائد إلا أن تؤكد عزمه، وتشد أزره، وتزيد داعية توكله على الله قوة، وكذلك ينبغي للمسلم أن يواجه البأساء في صبر ووقار، ويعمل على كشفها ما استطاع، ويضيف إلى هذا الدواء الناجع الاعتمادَ على من بيده ملكوت كل شيء، فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: ٢١].

هذا شأنه - صلى الله عليه وسلم - في الخطوب، أما إذا أفاض الله عليه نعمة، فإنها تنزل بأرض طيبة المنبت، فلا تثمر إلا شكراً، ومن شكره للنعمة: أن لا يتعاظم بها، أو يلبس في معاملة الناس حالاً غير ما كان يلبسه قبلها. وقد كان حاله - صلى الله عليه وسلم - في الزهد والتواضع بعد فتح مكة وغيرها من البلاد كحاله يوم كان يدعو إلى الله وحيداً، وسفهاء الأحلام في مكة يسخرون منه ويضحكون.

نصوَّب النظر بعد هذا إلى سيرته في الخليقة، فنراهم أمامه أربع طوائف:

١ - طائفة المهتدين: وهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة محيا، ويخالطهم في تواضع يعلَّمهم به أدب المساواة بين الرئيس والمرؤوس، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم.

أما البشاشة وطلاقة المحيا، فإنا نقرأ في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي: أنه قال: "ما حجبني (١) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم". فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كلوح وانقباض بعلة المحافظة على الوقار، لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً.


(١) ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.