للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من فوق المنابر، فلما شعرت فرنسا بالخطر المحدق عليها، لاحقته، وضيقت عليه السبل، فخرج فراراً بدينه إلى الشرق حاملاً قلماً بليغاً معطاءً لا ينفد خيره، وعقلاً مؤمناً ثاقباً، يتابعه حكم الإعدام الذي أصدرته محكمة العدو.

وحط به الترحال في دمشق الفيحاء، فأقام فيها مدة طويلة تولى في مطلعها التدريس، ثم اعتقله جمال باشا فترة من الزمان؛ لاشتغاله بالسياسة، وتحريض الناس للجهاد المقدس، وعلى أثرها سافر إلى الآستانة وألمانيا داعياً؛ لأنه يدرك أنه يمثل خلية من خلايا جسم الدعوة الإسلامية، وأن قوة هذه الخلية وفاعليتها في مدى انسجامها وتفاعلها مع خلايا الجسم الأخرى. هكذا كان ينظر إلى عبء الدعوة الإسلامية.

وفي سنة ١٩٢٠ م وصل إلى مصر بعد أن لاحقته فرنسا طويلاً، فبدأ النضال السياسي إلى جانب الدعوة والإصلاح، كانت داره عبارة عن سفارة تونسية، بل مغاربية، يؤمها الأمراء والمناضلون من أبناء المغرب العربي الكبير، فكان الشيخ يبعث فيهم روح النضال الموحد والمشترك؛ لأن عدوهم واحد، وهدفهم واحد، فأسس (رابطة تعاون جاليات أفريقيا الشمالية)، فعقدت المؤتمرات، وشرحت قضايا المغرب للعالمين العربي والإسلامي، ثم أنشأ (جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية) التي قامت بدور فعال، وكانت إحدى الطعنات التي مزقت صدر الاستعمار، وهو في كل هذا بقي يحن إلى تونس مسقط رأسه، ومنبِت فكره، ونجد ذلك في شعره تحت عنوان: (أنباء تونس). قال عندما زاره أحد الأدباء قادماً من تونس إلى القاهرة:

أمحدّثي رُبِّيتَ في الوطن الذي ... رُبِّيتُ تحت سمائه وبلغت رشدا