للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وفى وسط هذه الخصومات المضطربة ساعد عبد الملك حسن الحظ فوفق إلى رجلين من الطراز الأول فى المقدرة أحرزا له النصر: أحدهما المُهَلَّب وهو من شيعة ابن الزبير القدماء، ولكنه انضوى تحت لواء الغالب كما فعل زياد من قبل. والثانى رجل يفوقه فى سمو المواهب وفى الإخلاص هو الحجاج. نهض الحجاج بهمة لا رحمة فيهما ولا أنانية يريد أن يعيد للدولة سلطانها على جميع القبائل والأحزاب التى تريد السلطان لنفسها. وعقلية الحجاج تكاد تكون فى مظهرها غريبة عن الطبيعة العربية، وهو يشبه أن يكون طليعة أو صورة رائدة لوزير العصر العباسى، وكان يفوق أمثاله من رجال الاستبداد الذين جاءوا بعده.

لم يكن الحجاج يعرف سيدًا له غير الخليفة، أو مصلحة الدولة كما نقول فى العرف الحديث، ووطد العزم على أن يخدم سيده بكل الوسائل الممكنة. وقد أحاط المؤرخون اسمه بالكراهية متخذين مبررًا لهم من آراء الحجاج والوسائل التى لجأ إليها فى إنجاحها ويرى البعض أن الحجاج كان رجلا مؤمناً حقاً، وأنه كان من أنصار استمرار السنة النبوية فى إقامة الدولة على أساس دينى وهذه السنة تتصل بفكرة أن الحكم حق إلهى.

كانت خلافة عبد الملك كلها -بفضل نفوذ الحجاج القوى- لا تعدو العمل على إقامة ملكية مطلقة؛ والنزعة التى لم تكن الأيام قد تهيأت لها أيام معاوية، وإن كان زياد قد مهد لها قبل الحجاج، بدت ممكنة أيام عبد الملك الذى اتجه فى الكثير من أعماله المتواصلة إلى هذه الغاية. وأول شئ قام به هو إضعاف سلطان ولاة الأمصار وقطع علاقاتهم بالقبائل: وقد طبقت هذه السياسة بأكبر نجاح فى أقصى الولايات الشرقية وأبعدها عن مركز الخلافة، وفى تلك الولايات ظلت الروح الحربية فى القبائل حية بسبب الحروب التى شنت على الترك والفرس: قمع الحجاج حركة أتباع المهلب والأشعث التى أرادوا بها الحصول على الاستقلال، فمكّن الوحدة السياسية للدولة، وعمل على أن يجعل الولاة موظفين لا غير.