للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من العلم والقدرة والكلام ونحوها؛ وطائفة ثالثة منها ما يصرح بأنه لا تدركه الأبصار، ومنها ما يدل على جواز رؤيته تعالى. فرأى رجال السلف الصالح متابعة الصحابة والتابعين في موقفهم منها، فغلبوا -كما يذكر ابن خلدون- أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل" (١). ومن هؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف مالك بن أنس وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، فقد سئل الأول عن معنى قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" فقال: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والأيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" (٢).

إلا أنه شذ لعصر هوْلاء وبعدهم جماعة من المبتدعة راوا الأخذ بظاهر هذه الآيات ونحوها من الأحاديث، ورأوا تفسيرها كما وردت من غير تأويل، فوقعوا في التشبيه المحض والتجسيم الصريح، باعتقاد بعضهم أن لله يدا وقدما ووجها وبعضهم أن له جهة ينزل منها حين يريد وعرشًا يستوى عليه وكلامًا له صوت وحروف؛ وبذلك نرى الأولين أشبهوا في ذاته تعالى، والآخرين أشبهوا في صفاته وأنهم آلوا جميعًا إلى التجسيم (٣)

من هؤلاء المشبهة المجسمة جماعة من الحنابلة الغلاة الذين أوقعهم في هذه الهاوية تطرفهم في الأخذ بالظاهر وتفسيره كما ورد. وقد ذكر جمال الدين بن الجوزي في كتابه "دفع شبهة التشبيه" كثيرا من آراء هؤلاء المتطرفين أمثال الحسن بن حامد البغدادي الوراق شيخ الحنابلة في زمنه والقاضي أبو يعلى وابو الحسن بن الزاغونى، وغيرهم ممن يقول فيهم ابن الجوزي، في كتابه المذكور، إن من أصحابنا الحنابلة من تكلم في الأصول بما لا يصلح فنزلوا إلى مرتبة العوام؛ إذ


(١) المقدمة ص ٣٦٧ ومثل هذا في الملل والنحل جـ ١، ص ١١٦ - ١٧٧
(٢) الملل والنحل جـ ١، ص ١١٨.
(٣) ابن خلدون ص والملل والنحل جـ ١، ١١٧ ص.