للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أنه لم ينقض شهران على ذلك حتى توفى شيركوه، وظن الخليفة أن صلاح الدين سيكون له خادما مطيعا لما اتسم به من دماثة الخلق فعينه وزيرا ولقبه "بالملك الناصر" (٢٥ من جمادى الآخرة = ٢٦ من مارس)، وبعث إليه نور الدين خطاب تهنئة اعترف له فيه بأنه قائد جند الشام، ومنذ ذلك الحين ظهرت عظمة صلاح الدين، فقد اجتمع له علاوة على القوة والبأس اللذين أتاحتهما له الظروف المواتية موهبة عظيمة عرف كيف يفيد منها. وإذا كان حتى ذلك الحين قد تردد فى وقف حياته على الحرب حتى أن نور الدين كان يعمد إلى حمله حملا أو يكاد على الاشتراك فى الحملات على مصر، وإذا كان أيضًا لم يهتم بشئ قدر اهتمامه بالمجادلات الفقهية الكلامية ولم يكن يظهر أمام الناس إلا قليلا جدا كما مر بنا، فإنه قد عزف عن ذلك كله فصدف عن المجادلات الكلامية لا يمارسها إلا فى أوقات فراغه على سبيل التسلية. وقد وضحت السبيل أمامه: وهى أن يكفل السلطان له ولأسرته، وأن يكبح جماح الشيعة، وأن يقاتل الصليبيين حتى النهاية، وقد استطاع أن يحقق هذه الأهداف إلى حد كبير، لأن الطريق كان ممهدا له بغض النظر تماما عن قدرته وحميته، إذ لولا ما أتاه نور الدين من قبل من أعمال، ولولا قدرة أبيه أيوب السياسية، واضمحلال الخلفاء الفاطميين، بل لولا المشاحنات الداخلية بين الصليبيين، لما استطاع قط أن يحرز تلك الانتصارات العظيمة فى حياته بالقدر الذى أتيح له، ويرجع ذلك إلى انعدام الوحدة أصلا بين ولاة المسلمين؛ لقد كان صلاح الدين أقرب إلى السياسى منه إلى القائد، يأخذ بنصيحة مستشاريه المقتدرين، وكان بارعا موفقا فى اختيار معاونيه، دون أن يترك بحال زمام السلطان يفلت من يده، وكان يدير ديوانه رجلان من أهل العلم يلقب كل منهما بالوزير، وهما القاضى الفاضل، ثم عماد الدين الكاتب الإصفهانى، وقد اشتهر كلاهما فى رسائله بجمال العبارة ورشاقة اللفظ، وكانا يراسلان باستمرار كبار العمال وأصدقاء صلاح الدين من الولاة، وإن المرء ليذهل من غزارة رسائل صلاح الدين وما كانت تحتويه من التقارير السرية الضافية،