للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وصل إلينا من غير تحريف (انظر المصدر المذكور آنفًا، جـ ١ ص ٢٦١؛ جـ ٢، ص ٩٣) على الرغم من نسيان الرسول لعدة من آيات الكتاب (سورة


ومن الاعتبارات الأدبية التى ينقد بها متن تلك القصة كذلك، ما ساقه الأستاذ الإمام رحمه الله-
فى بحث له قيم ألم فيه بطائفة من نقد القدماء، ورفض القصة، وفسر آية الحج هذه بما يستقيم دون اتصال بالسبب المزعوم فى نزولها، والبحث المذكور منشور فى المجلد الرابع من مجلة المنار (ص ٨١ - ٩٩) وذلك الملحظ الأدبى الناقض لمتن للك القصة هو: أن العرب لم يرد فى نظمها، ولا فى خطبها، ولا نقل عن أحد بطريق صحيح، أنها وصفت آلهتها بالغرانيق، وليس من معانى الكلمة شئ يلائم صفة الآلهة والأصنام حتى يطلق عليها فى القرآن (المنار م ٤ ص ٩٩).
فتلك الاعتبارات الأدبية وحدها، دون نظر إلى شئ وراءها، مما لا يليق أن يهمله من رجح حلمه، واتسع فى فقه اللغة علمه؛ حتى يحتج بعدها وبعد غيرها من قوى النقد بآية الحبم المذكورة على إمكان سعى الشيطان لتخليط القرآن. وتلك كلها مظاهر النقد فى الأسلوب القديم، فكيف بدقة الأساليب الغربية الحديثة! ! !
* * *

على أنك إن تهدر ذلك كله؛ وتقبل مع الأستاذ كاتب مادة "أصول " قصة الغرانيق، فلن تجد بذلك، الطريق للاستشهاد بآية الحج ٥٢ على إمكان سعى الشيطان لتخليط القرآن. نعم تكون القصة وحدها شاهدًا على وقوع هذا مرة على النحو الذى ترويه، وتكون سببًا للنزول له أثره فى تفسير الآية، لكن مع ذلك كله لا تكون شاهدًا على هذه الدعوى، فى إمكان سعى الشيطان لذلك، لوجوه:
١ - أن الآية- على أن هذا سبب النزول، وعلى فرض تخليط الشيطان على الأنبياء- ليست حديثًا عن تخليط حصل لنبى الاسلام [- صلى الله عليه وسلم -] ولا فيها إشارة إليه؛ "وإلى هذا يشير أبو حيان -فى الموضع السابق- اذ يقول "وهذه الآية ليس فيها إسناد شئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تضمنت حالة من كانوا قبله من الرسل والأنبياء، "إذا تمنوا" فليست الآية دليلا -فى حساب البحث العلمى- على تخليط خاص بالقرآن.
ولا يفوتك أن تلاحظ أن الآية تقول {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فتعمم، ولكن الكاتب يخص القرآن بإمكان سعى الشيطان لتخليطه، وذلك ما نمسك عن تعليله.
٢ - أن معنى الآية- مع تسليم هذا السبب وتوجيه تفسيرها بمقتضاه- إنما هو أن ما يقع من التخليط الشيطانى مؤقت، لا يلبث أن ينسخه الله، ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. فهو إمكان مؤقت لا يترك أثرًا، فلا يتجه مع هذا الاستدلال بالآية على إمكان التخليط.
وليس بشئ عندى ما قاله البيضاوى- أنوار التنزيل جـ ٤، ص ٥٨ - ونقله عنه الأستاذ الشيخ محمد عبده فى بحثه المشار إليه آنفًا موافقًا له فيه؛ من أن خطر عدم الوثوق بالقرآن لا يندفع بقوله تعالى {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} إذ يكون الكلام فى الناسخ كالكلام فى المنسوخ يجوز "إلقاء الشيطان فيه ". وليس هذا القول بشئ بعد قول الله إنه يحكم آياته، وأنه يجعل ذلك فتنة ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض، الآية. وإذا قرر الله أنه يحكم فلا محل للقول فى إمكان الإلقاء فى الناسخ كما كان الإلقاء فى المنسوخ لأن الأول مقصود لحكمة.
٣ - أن الذين فاتهم نقد هذه الآية من المفسرين، وكبوا فى هذا المقام كالزمخشرى والطبرى لم يجدوا فى هذا غضاضة، بل عدوا المسألة كما ورد فى الآيات محنة وابتلاء؛ وقال الزمخشرى "وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك " أى يعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق من ربك والحكمة- كشاف جـ ٢، ص ٦٥ - وما ذلك إلا لأن الآية -مع السبب المزيف- لا يقبل أن يستنتج منها أكثر مما استنتجه البيضاوى- فى الموضع السابق- إذ يقول "والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء، وتطرق الوسوسة إليهم، . فليست مع تسليم هذا التخليط كله فى سبب النزول المزيف حجة لإمكان سعى الشيطان لتخليط القرآن تخليطًا ينقض على المسلمين القول بقطعية ثبوته؛ ولا لهذا شيء من الأساس، الذى يجعل عالمًا يلقيه حجة مسلمة، وقولة مفروغًا منها؛ حرر الله عقولنا من أسر الهوى!
وتمام القول فى تفسير الآية وربطها بالسياق، ونقد سائر الرواية فيما نزل من آيات، لأسباب تتصل بهذه القصة وما إلى ذلك، لا محل للقول فيه هنا وإنما يستوفى فى مظانه.
أمين الخولي