للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عيسى بن دينار، عن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال الرجل قولا -وإن كان له فضل- يتبع عليه؛ لقوله عز وجل-: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ١.

فإن قال: قصري وقلة علمي تحملني على التقليد. قيل له: أما من قلَّد فيما ينزل به أحكام شريعة عالما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به فمعذورٌ لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.

ولكن من كانت هذه حاله هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله، فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته، ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؟

فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلا وردا للقرآن، قال الله -عز وجل-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ٢، وقال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ٣.

وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يستيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.

ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من أفتى بفتيا وهو يعمي عنها كان إثمها عليه"٤ موقوفا ومرفوعا، قال وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"٥ قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. انتهى كلام أبي عمر -رحمه الله تعالى-.

فتأمل ما في هذا الكلام، من الرد على من يقول بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد


١ سورة الزمر آية: ١٨.
٢ سورة الإسراء آية: ٣٦.
٣ سورة الأعراف آية: ٢٨.
٤ الدارمي: المقدمة (١٦٠).
٥ البخاري: النكاح (٥١٤٤) , ومسلم: البر والصلة والآداب (٢٥٦٣) , والترمذي: البر والصلة (١٩٨٨) , وأحمد (٢/ ٢٤٥,٢/ ٢٨٧,٢/ ٣١٢,٢/ ٣٤٢,٢/ ٥١٧,٢/ ٥٣٨) , ومالك: الجامع (١٦٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>