للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نعَم، البادية على وَجْهي بادية، لا أُنكِرُ حالي، ولا أُعرَفُ بخالي؛ فأسكَتَ عطاءً مُفحِمًا وأُعجِب الأميرُ والحاضرونَ بجواب أبي محمد.

قال أبو الحَجّاج ابنُ الشَّيخ: كان الفقيهُ أبو محمد رضي اللهُ عنه قد أنشَدَني لنفسِه هذيْنِ البيتَيْن (١) [الوافر]:

بإحدى هذه الخيماتِ جارَهْ ... تَرى هجْري وتعذيبي تجارَهْ

وكم نادَيْتُ: يا هذي ارحَمِينا ... فلَسْنا بالحديدِ ولا الحِجارَهْ

قال: فأنشَدتُّهما ذاتَ يوم جماعةً من الإخوان، من أهل الحَذْقِ والإتقان، فكلٌّ استَمْلَحَهما حينَ لَمَحَهما، ووَمَقَهما إذْ رَمَقَهما، واستَحْلاهُما [٢١ ظ]، لمّا نُشِرت حُلاهُما، إلى أن قال أحدُهم: هذا السِّحرُ الحلال، والماءُ الزُّلال، لكنْ تعالَوْا نُذيِّلِ البيتَ الأوّل، على ألّا مَطْمعَ لكم في قافيتِه ولا مُعوَّل؛ لأنه التزَمَ فيها خمسةَ أحرُفٍ تِباعًا، وهذا شيءٌ يَقْصُرُ كلُّكم عن الإتْيانِ بمثلِه باعًا، وأمّا قافيةُ الثاني فربّما، على أنّها أبعدُ من السَّما، فقلتُ له: يا هذا، لقد ضَيَّقتَ واسعًا، وأيْأَسْتَ طامعًا، وزَعمتَ أنْ ليس في الحيِّ من حَيّ، ولا في النادي من نادي، ولعلّ مَن تَزْدَريه، يَدْريه، وعسى من تحقِرُه يُجيب، بالأمرِ العجيب، فقال: بسم الله ادْعُ النِّزال بهذا الميدان، وابرُزْ للقتال إن كان لك به يَدان، فقلتُ: لِيُخرِجْ كلُّ واحدٍ منكم ما عندَه، ولْيَجْهد جُهْدَه، ولْيقُلْ على قَدرِ وُسعِه، ورِقّةِ طَبْعِه، ثم لْنبعَثْ به إلى قائلِ البيتَيْن، ولْنُحكّمْهُ فإنه عَدْلٌ ما عندَه مَيْن، يَمِيزُ الطّيِّبَ من الخبيث، والجديدَ من الرَّثيث، فرَضِيَ كلٌّ منا بهذا القول، واستَعنّا بذي القُوّةِ والحَوْل، والمِنّةِ والطَّوْل، وقال كلُّ فصيح منهم ما أمكَن، وزاحمتُهم أنا بلسانيَ الألْكَن، وألقَيْتُ دَلْوي في دِلائهم، وجعَلتُ أمشي خلْفَ أدِلّائهم، ثم جمَعتُ ما نَظَموه، ورفَعتُ ما رَسَموه، وبَعثْتُ به إليه طرائقَ قِدَدًا، ولم أُسمِّ من قائلِه أحدًا؛ بيْدَ أنّي أخَّرتُ شِعري لرِكّتِه، وقَدَّمتُ شِعرَهم لرِقّتِه، وكتَبْتُ بهذه الأبياتِ، التي ذكْرُها


(١) هما في صلة الصلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>