للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُوسِرًا، فقال لأخيه: ما لكَ وله؟ فقال: هذا الخَلَفُ (١) السَّفيهُ الرأي الفاسدُ النظر يَترُكُ شُغلَه الذي أُهِّلَ له ويشتغلُ بما لا يُفيدُه، وهل يَرجو مثلُ هذا أن يكونَ من أهل العلم أو لهُ استطاعةٌ على القيام به؟ فقال له أخوه: لعلّك تُحبُّ القراءة؟ فقال: نعم؛ فقال لأبيه: دَعْهُ في كفالتي، فضَمَّهُ إليه واعتَنَى به وأحسَنَ إليه وترَكَه وما أحَبَّ من طلبِ العلم؛ فقال أبو الحَسَن: فما فُتِحَ لي إلّا بعدَ بُطءٍ ومُشارفةِ يأسٍ، وكنتُ في كَرْبٍ من ذلك. ثم لمّا فتحَ اللهُ عليه همَّ بالرِّحلة في لقاءِ حَمَلةِ العلم والأَخْذِ عنهم، فقَصَدَ إلى دارِ عمِّه فلم يُلْفِه بها، وكان ممّن يُواقعُ شُرْبَ الخمرِ أحيانًا، فعَمَدَ إلى أواني الخمر وخُوَيْبِيَةٍ كانت لهُ منها، فكَسَرَ ذلك كلَّه وخرَجَ لرحلتِه. ولما جاء عمُّه إلى منزلِه أخبرَتْه زَوْجُه بما فعَلَ ابنُ أخيه، وقالت له: أرأيتَ ذلك الذي رَبَّيتَه وأحسنتَ إليه وقُمت بمَؤونتِه ما فعَلَ معَك؟! قال: فحَرَجَ عليَّ وغضِب. ثم غابَ أبو الحَسَن نحوَ عشَرةِ أشهر ثُم رجَعَ، فكان يُحَلِّقُ بجانب من المسجد، وشيْخُه أبو محمد ابنُ السِّيْد يُحلِّق بجانب آخَرَ منه، وكان بلسانِه لَثْغٌ شديدٌ في الراء يقلبُها غَيْنًا خالصةً، فحَكَى أبو الحَسَن بنُ لُبّ: أنه جاءه يومًا واعظٌ ذو هيئة ورُواء، فاستَأذَنَه في الوَعْظِ على المِنبر، وأبو الحَسَن حينئذٍ خطيبُ الجامع ببَلَنْسِيَة وصاحبُ الصَّلاة به، فأَذِنَ له، فلمَّا رَقِيَ المِنبَرَ وأخَذ في وَعْظِه جاء بلَحْنٍ فاحش يُحيلُ أكثرَ المعاني إلى أضدادِها، وغيَّرَ آيَ القرآن، ولمّا سَمِع أبو الحَسَن شَناعةَ لَحْنِه قام إليه وأنزَلَه عن المِنبَر، وأخَذ بأُذُنِه حتى أخرَجَه على بابِ المسجدِ وهو يقولُ له: الدُّوغ الدُّوغ -يريدُ: الدُّورَ الدُّور- لإفراطِ لَثْغِه، يعني: أنه لا ينبغي لمثلِه أن يَعِظَ على المنابر في المساجد ولكنه يتَطوَّفُ على الدُّور.

وُلد بالمَرِيَّة سنَة إحدى وتسعين، وقيل: سنةَ تسعين، وقيل: بعدَ التِّسعينَ وأربعِ مئة، وانتَقلَ أبوُه إلى بَلَنْسِيَةَ سنةَ ستٍّ وخمس مئة، ورَحَلَ إلى قُرْطُبةَ سنةَ ثلاث عشْرةَ، واشتَكَى لتسع بقِينَ من رَمَضانِ سبع وستينَ وخمس مئة، فافتَصَدَ


(١) بفتح اللام: الولد الطالح في هذه القرينة.

<<  <  ج: ص:  >  >>