للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واستمرَّت حالُه على ما ذُكِر من تولِّي القضاءِ بقُرطُبة وصَرْف التهمُّم به والاعتناءِ بمآرِبِه إلى أنْ نُكِبَ النَّكبةَ الشَّنعاءَ في عام ثلاثةِ وتسعينَ وخمس مئة، وقد ألَمَّ أبو الحَجّاج بن غَمْر بذِكْرِها في "تاريخهِ" فقال: وأمّا أبو الوليد بن رُشد فكان قد نشَأ بينَه وبينَ أهل قُرطُبة قديمًا وَحْشةٌ جَرَّتها أسبابُ المُحاسَدة، ومُنافسةِ طُول المُجاوَرة، فانتَدَبَ الطالِبونَ لِنَعْي أشياءَ عليه في مصنَّفاتِه تأَوَّلوا الخروجَ فيها عن سَنَن الشريعة، وإيثارَه لحُكم الطبيعة، وحَشَروا منها ألفاظًا عديدة، وفصولًا ربَّما كانت غيرَ سديدة، وجُمِعت في أوراق، وقيل: إنّ بعضَها أُلِفيَ بخطِّه، ومشَى رافعوها إلى حضرة مَرّاكُش سنةَ تسعينَ، فشَغَلَ عن الالتفات إليها والوقوف عليها ما كانت الحالُ بسبيلِه من الاستعدادِ والنظرِ في مُهمّات الجهاد، فَنكَصَ الطالِبونَ على أعقابِهم، وقَنِعوا من الظفَر بسُرعة إيابِهم. ولمّا كان الوصولُ إلى الأندَلُس اشْتُغِلَ بما كان من أمورِ (١) الحركات، فكسَدت سُوقُ السِّعايات، وضُرِب عن كلِّ طالب ومطلوب، والأعداءُ -لا كانوا- لا يَسْأمُونَ من الانتظار، وَيرقُبونَ أوقاتَ الضِّرار؛ فلمّا كان التَلوُّمُ من المنصُور بمدينة قُرطُبة، وامتَدَّ بها أمدُ الإقامة، وانبسَط الناسُ لمجالِس المُذاكَرة، تجدَّدت للطالِبينَ آمالُهم، وقَوِي تألُّبُهم واستر سالُهم، فأدلَوْا بتلك الأُلْقِيَات، وأوضَحوا ما ارتَقَبوا فيه من شنيع الهَفَوات، الماحيةِ لأبي الوليد كثيرًا من الحَسَنات، فقُرئت بالمجلس وتُؤولتْ أغراضُها ومعانيها، وقواعدُها ومبانيها، فخَرَجت بما دَلَّتْ عليه أسوأَ مخرَج، وربّما ذَيَّلَها مكْرُ الطالِبين، فلم يُمكنْ عندَ اجتماع الملإِ إلّا المُدافعةُ عن شريعةِ الإسلام، ثُم آثَرَ الخليفةُ فضيلةَ الإبقاء، وأغمَدَ السيفَ التماسَ جميلِ الجزاء، وأمَرَ طلَبةَ مجلسِه وفقهاءَ دولته بالحضورِ بجامع المسلمين، وتعريفِ الملإِ بأنه مَرَقَ من الاين، وأنه استوجَبَ لعنةَ الضالّين، وأضيفَ إليه القاضي أبو عبد الله بنُ إبراهيمَ الأصُوليُّ في هذا الازدحام، ولُفَّ مَعه في خِرَق هذا المَلام، لأشياءَ أيضًا نُقِمَت عليه في مجالِس المُذاكَرة وفي أثناءِ كلامِه معَ توالي الأيام، فأُحضِرا


(١) هنا ينتهي الخرم المشار إليه في النسخة ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>