للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان من كبارِ المُقرِئينَ وجِلّة المجوِّدين، يكادُ يَستغرقُ عُمُرَه ليلًا ونهارًا في تلاوة كتاب الله تعالى، ماهرًا في النَّحو، حافظًا الآدابَ واللُّغاتِ والأشعارَ قديمَها وحديثَها، قد جَمَعَ من المعارِف فنونًا لا يُدْرَى في أيِّها كان أكثَرَ براعةً، انفردَ في وقتِه بشَرْق الأندَلُس عن نَظيرٍ في اتّساع المعارِف والاستبحار في ضُروب العلم: من التحقيق في القراءات، وحِفظ الفقه، والدُّرْبة في الفُتْيَا، وتدقيق النّظَرَ. شُووِرَ معَ أشياخِه فكان يَفُوقُهم بحضور الذِّكر للنّوازل، وجَوْدة الاستنباط، معَ البَصَر في الحديث، والحِفظ للأخبار والتواريخ والأنساب، والاطّلاع على المعاني الأدبيّة، والوقوف على الغريب. علي أنه كان نَزْرَ الحَظّ من منثورِ الكلام، فأمّا النَّظمُ فلم يكُنْ له منهُ إلّا قِسطٌ يجِلُّ عنه.

وكان سَهْلَ الخُلُق وَطِيءَ الأكناف، بَرًّا بأصحابِه، كثيرَ المُباسَطة والمُفاكَهة، مبسوطَ اليد بالإحسان والصَّدَقات، مؤْثِرًا بما مَلَكتْ يمينُه، مُقدَّمًا في عَقْدِ الشُّروط، مقصودًا إليه في رسومِها المطوَّلة، فكان يُغلِّي في الجُعْل على كَتْبِها، فلا يوجَدُ منه بُدٌّ؛ لحِذْقِه بنُكَتِها، وشدّة تحفُّظِه في رَبْطِ أصولِها، واستظهارِه لِما عسَى أن يَعرِضَ من الحكوماتِ فيها، وتحرُّزِه من دواخِل الخَلَل عليها، معَ حُسن المَسَاق وتحريرِ المقاصِد وتهذيبِ الألفاظ وبراعةِ الخَطّ ونُبْل التقييد، حتى دُوِّنت عنه.

وكانت فيه دُعابةٌ أخَلَّت بجانبه عندَ القاضي أبي عبد الله ابن المُناصِف أيامَ استُقضيَ ببَلَنْسِيَة، فرَدَّ شهادتَه من أجَلِها، حتى تبيَّنَ له فَضْلُه ونزاهةُ مَنْصِبِه وتحقَّق طَوِيّتَه وحُسنَ معتقَدِه وسلامةَ دِخلتِه، فأعاده إلى رفيع رُتبتِه وجميل عادتِه. وعَرِضَتْ ببَلَنْسِيَةَ وابنُ المُناصِف مُستقضًى بها وثيقةٌ لم يضْطَلعْ بكَتْبِها ولمِ يَفِ بتقييدِها إلّا أبو عبد الله بنُ نُوح هذا، فرَغِبَ صاحبُها إليه في كَتْبِها، فلمّا فَرَغَ منها التمسَ عليها منه جُعْلًا اعتقَدَ ربُّها أنه شَطَطٌ وإفراط، فلم يَسَعْه إلا تعريفُ القاضي أبي عبد الله ابن المُناصِف ذلك، فاستَدعَى الوثيقةَ وتصَفَّحها، وتعرَّف منها استقلالَ أبي عبد الله بالصِّناعةِ وجَوْدة إيرادِه إيّاها، فأمَرَ صاحبَها بالوفاءِ لأبي عبد الله بما طَلبَه منه، وقرَّر عندَه أنه قليلٌ في جَنْبِ إتقانِه إيّاها وإحكامِه فُصولَها.

<<  <  ج: ص:  >  >>