للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١): يا عُدَّتي، والسيِّدُ الذي قلَّدتْه الفُتُوّةُ أعِنَّتَها، وملَّكتْه المُروءةُ أزِمَّتَها، الإسهابُ كُلفة، والإيجازُ حِكمة، [٨٣ ب] وخواطرُ الألبابِ سهام، يُصابُ بها أغراضُ الكلام، فمَن أصمَى الرَّميةَ أولُ سِهامِه مقصدًا، لم يكنْ بطُول الرمايةِ مُجِيدًا. وأخونا أبو عامر -سلَّمه اللهُ- يُسهِبُ نثرًا وُيطوِّلُ نظمًا، شامخًا بأنفِه، ثانيًا من عِطْفِه، متخيِّلًا أنه قد أحرَزَ قصَبَ السَّبْق في الآداب، وأُوتيَ الحِكمةَ وفَصْلَ الخطاب، يَستقصرُ أساتيذَ الأُدباء، ويستجهلُ شيوخ العلماء [البسيط]:

وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطعْ صَوْلةَ البُزْلِ القناعيسِ (٢)

وكتبتُ إليك بهذه الأبيات خاليةً من اللّفظِ الوَحْشي، والطَّبعِ البَدَويّ، تُروقُك منظَرًا، وتَشُوقُك مَخْبَرًا [مخلع البسيط]:

درٌّ على أنَّهُ كلامٌ ... سِحرٌ ولكنَّهُ حَلالُ

أوردتُها لُجّةَ الكرَم خائضًا وسابحًا، وأرعَيْتُها رَوْضةَ الأدب مُريحًا وسارحًا، في ليلة بِتُّها والكفُّ الخَضيبُ سِوارُه البدر، والشِّعرى العبور وشاحُها النَّسْر، وكأنما سماؤها رَوْضةٌ تفتَّحت النُّجومُ وَسْطَها زَهَرًا، وتفَجَّرَتِ المجَرَّةُ خِلالَها نَهَرًا، تتبسَّمُ جوانبُه أُقحُوانًا، وتتضَوَّعُ مسالكُهُ ظيَّانًا، وادٍ يَسيلُ بعسجَد، على رَضْراضِ زَبَرْجَد، وجَوٌّ نادَمَتْ مُزُنُه النَّوْرَ فانتشى، وعانَقَتْ رِيحُه الغُصْنَ فانثنى، فما شئتَ من خجِلٍ خدُّه، وثملٍ قَدُّه، فلله مَبِيتي ذلك مَبِيتًا، أحييتُهُ للهمِّ مُميتًا، بهمّةٍ لا ينقضي سَهَرُها، أو يتقَضَّى وَطَرُها، فلمّا أصَبْتُ الغُرّة، وأقصَدتُ الثَّغرة، توسَّدتُ عَرارًا، وتناومتُ غِرارًا، حتى إذا ما نبَّهني الفجرُ ببَردِه، وسَرْبَلَني الصُّبحُ ببُرْدِه، هبَبْتُ من النَّومة، وصحَوْتُ عن النَّشوة، فزفَفْتُها إليك بنتَ ليلتِها عذراء، وجَلَوْتُها عليك كريمةً فكرتُها حسناء، تتلفَّحُ بحَبِرة حِبر، وتتبخترُ في


(١) ورد في الذخيرة ١/ ٣٤٠ مقتطفات من هذه الرسالة.
(٢) البيت لجرير، ديوانه ٢٥٠، والتاج (قنعس).

<<  <  ج: ص:  >  >>