للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأزعجَتْهُ الفتنةُ الواقعةُ بالأندَلُس سنةَ تسع وثلاثينَ وخمسِ مئة عن بلدِه، فصار إلى مُرْسِيَةَ، ووَلّاه القاضي بها وبأعمالِها أبو العبّاس ابنُ الحَلّال خُطّةَ الشُّورى، ثم قضاءَ بَلَنْسِيَة، في رجبِ ستٍّ وأربعينَ، فلم تَطُلْ مُدّةُ استقضائه، فخَرَجَ منها مُستَعْفِيًا منها أوّلَ شوّال من السّنة؛ لانتزاءِ عبد الملِك بن سَلْمانَ أو ابن حامدِ قبلَه فيها على الأمر ابن سَعْد، وأدَّى ذلك إلى حصارِها الشّديد سنةَ سبع بعدَها، وعاد إلى مُرْسِيَةَ، إلى أن نُكِبَ ابنُ الحَلّال فصَرَفَه السُّلطانُ عمّا كان بيدِه من الخُطَط، ثم راجَعَ فيه جميلَ رأيه لِما كان عليه من الانقباض وعَدَم التلبُّس بالدُّنيا وكثرةِ الدُّؤوب على الإقراءِ والتدريس، وطال مقامُه بمُرْسِتةَ حتى صار بها أشهرَ منهُ ببلدِه، والآخَذونَ فيها عنهُ أكثرَ من الآخِذينَ عنه ببلده.

قال أبو عبد الله التُّجِيبيّ: ذُكِرَ لي من عِلمِه وفَضْلِه ما أزعَجَني إليه، فلقِيتُ عالمًا كبيرًا، ووجَدتُ عندَه جماعةَ وافرةَ من شَرْقِ الأندَلُس وغَرْبِها يتَدارَسُونَ الفقهَ، ويتذاكَرونَ بينَ يدَيْه، ويسمَعونَ الحديثَ عليه، وَيتْلُونَ كتابَ الله بالقراءاتِ السَّبع، وكان يؤُمُّ في الفريضة بجامع مُرْسِيَةَ ثالثًا لأبي القاسم بن حُبَيْش وأبي عبد الله بن حَمِيد، يؤُمُّ كلُّ واحدِ منهم أسبوعًا، وكان حَسَنَ الصّوتِ بالقرآن؛ وأطال الثناءَ عليه وأطاب.

وقال أبو القاسم المَلّاحيُّ: وَليَ قضاءَ بَلَنْسِيّةَ عند خروجِه من غَرناطة، فحُمِدت سِيرتُه ومشَى على سَنَن مَن تقَدَّم من قُضاةِ العدل. مَوْلدُه قُبَيْلَ الفجر من ليلةِ السّبت الثانية والعشرينَ من صَفَرِ إحدى وخمسِ مئة، وتوفِّي بإشبيلِيَةَ نصفَ ليلةِ الثلاثاءِ التاسعةَ عشَرةَ من شوّالِ سبع وستينَ وخمسِ مئة، وكان قد قَدِمَها وافدًا من مُرْسِيّةَ معَ وجوه أهلِها على أبي يعقوبَ بن عبد المُؤْمن، ودُفنَ بمقبُرةِ النَّخيل من إشبيلِيَةَ بعدَ صلاةِ العصر من يوم الثلاثاءِ المذكور، وصَلّى عليه أبو الحَكَم بن حَجّاج، ثُم نُقلَ إلى غَرْناطةَ يومَ السبت لسبع بَقِينَ من شوّالِ المؤرَّخ [١٥٠ ب] فدُفن بها، وذلك بوصيّةٍ منه؛ إذ كانت مَنْشأهُ ومَدْفِنَ أسلافِه، رحمَهم الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>