للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان كاتبًا بارعًا فَصيحًا، مُشرِفًا على علوم اللِّسان حافظًا للُّغاتِ والآداب، جَزْلًا سَرِيَّ الهمّة كبيرَ المِقدار، حَسَنَ الخُلُق كريمَ الطَّبع، نَفّاعًا بجاهِه ومالِه، كثيرَ الاعتبارِ بطلبةِ العلم والسَّعي الجَميل لهم، وإفاضةِ المعروفِ على قُصّادِه، مُستعِينًا على ذلك بما نال من الثروةِ والحُظْوةِ والجاهِ عندَ الأُمراءِ من بني عبد المُؤْمن؛ إذْ كان صاحبَ القَلَم الأعلى عند المنصُورِ منهم، فابنِهِ الناصِرِ فابنِهِ المُستنصِر، رفيعَ المنزلةِ والمكانةِ لديهم، عامدًا الإعرابَ في كلامِه، لا يخاطبُ أحدًا من أصنافِ الناس، على تفارِيقِ أحوالِهم، إلا بكلام مُعرَب، وربّما استَعمَلَ في مُخاطبةِ خَدَمتهِ [١٥٥ أ] أو أَمتهِ من حُوشيِّ الألفاظِ ما لا يُكادُ يُستعمَلُ ولا يفهَمُه إلا حُفّاظُ اللُّغة من أهل العلم، عادة ألِفَها واستمرَّت حالُه عليها, وله اختصارٌ حَسَنٌ في "إصلاح المنطِق" ورسائلُ مشهورةُ الجَوْدة تَناقَلَها النَّاسُ كثيرًا استحسانًا لها، وشِعرٌ يُحسُنُ في بعضِه.

حدَّثني الشّيخُ أبو القاسم البَلَويُّ رحمَه اللهُ، قال: كنتُ قد تعرَّفتُ به في الأندَلُس، فلمّا ورَدْتُ حضرةَ مَرّاكُشَ قصَدتُ إليه مُسلِّمًا عليه، فهَشَّ إليَّ ورحَّبَ بي وبالَغَ في التَّحَفِّي بمسألتي وإكرامي، وعَزَمَ عليّ في النزولِ عندَه، فعمِلتُ على إشارته، فأنزَلَني بعُلِّيَّةٍ في رَحْبةِ دارِ سُكناه، فمكثْتُ بها طُولَ مقامي بمَرّاكُشَ حينئذٍ، وعَرَضَ لي أثناءَ تلك المُدّة مَرَضٌ طاوَلَني، فكان لا يَدخُلُ دارَه متى وَصَلَ إليها ولا يَخرُجُ منها إذا أراد الخروجَ منها حتى يصعَدَ إليَّ ويسألَني عن حالي وعمّا انتهَى إليه مرَضي، ويُحضِرُني مَهَرةَ الأطبّاءِ للنّظرِ في علاجي وتدبير عِلّتي، ويأمُرُ في دارِه بإحكام ما يقتضيهِ نَظرهم من غذاءٍ ودَواء، وكان هذا دأْبَه معي حتى أبلَلْتُ من مَرضي، شَكَرَه اللهُ وكافَأَ فعلَه الجميل؛ ولقد وافَقَ عندي يومًا تلبينةً صُنِعت لي قدَّر أنّها قد أُخِّرت عن الوقتِ الذي يصلُحُ في استعمالِها فيه، فتغيَّر لذلك وشَقَّ عليه كثيرًا، وتوهَّمَ إهمالَ جانبي وقلةَ الاهتبالِ بشأني، وأقامَ يسيرًا، ثم نزَلَ إلى دارِه، فسمِعتُ صوتَه عاليًا بتوبيخٍ شديدٍ وتقريع مُقلِق، إمّا لأهلِه وإمّا لمن كلَّفَه القيامَ بحالي.

<<  <  ج: ص:  >  >>