للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: وكنتُ أخِفُّ عليه وأشفَعُ عندَه في كبارِ المسائل، فيُسرعُ في قضائها، ولقد عرَضَتْ لبعض أصحابي من أهل بلادِ الأندَلُس حاجةٌ مُهمّةٌ كبيرة وَجَبَ عليَّ السَّعيُ فيها والتماسُ قضائها وفاءً لربِّها, ولم يكنْ لها إلّا ما قَدَّرتُه من حُسنِ نظرِه فيها، ورَجَوْتُه من جميل أثَرِه في تيسيرِ أمرِها، وكان قد أصابه حينَئذٍ التِياثٌ لزِمَ من أجلِه دارَه، فدخَلتُ إليه عائدًا، فأطال السّؤالَ عن حالي، وتبسَّطَ معي في الكلام مُبالغةً في تأنيسي، فأجَّلتُ ذكْرَ تلك الحاجة، ورغِبتُ [١٥٥ ب] منه في الشّفاعة عندَ السُّلطانِ في شأنِها، وكان مُضطجِعًا فاستوَى جالسًا، وقال لي: جَهِلَ النَّاسُ قَدْري يَا أَبا القاسم -وكرَّرها ثلاثًا- أفي مثلِ هذا أشفَعُ إلى أمير المُؤْمنين؟ هاتِ الدَّواةَ والقِرطاس، فناوَلْتُه إيّاهُما، فكتَبَ برغبتي ظهيرًا ورَفَعَه إلى السُّلطان فصُرِفَ في الحسين إليه مُعلَّمًا عليه، فاستَدْعاني ودَفَعَه إليّ وقال لي: يَا أَبا القاسمٍ، لا أرضَى منك أن تُحجِمَ عنّي في التماسِ قضاءِ حاجةٍ تعرَّضَتْ لك خاصّة، وإن كانت لأحدٍ من معارفِك أو كان منك بسببٍ عامّةً، كبُرَتْ أو صَغُرَت، فالتزِمْ قضاءها وعليَّ الوفاء، فإنّ لكلِّ مُكتَسَب زكاةً، وزكاةُ الجاهِ بَذْلُه، فشكرتُهُ على جميل ما أوْلاهُ، ودعَوتُ له بطُولِ بُقْياه.

وشبيهٌ بهذا ما ذَكَرَه الخَطيبُ أبو بكر بنُ ثابت في أخبار الحَسَن بن سَهْل بإسنادِه إلى يحيى بن خاقانَ، قال (١): حضَرْتُ الحَسَنَ بن سَهْل، وجاء رجلٌ يَستشفعُ به في حاجةٍ فقضاها، فأقبَلَ الرجُلُ يَشكُرُه، فقال له الحَسَن: عَلامَ تشَكرُنا ونحن نَرى أنّ للجاهِ زكاةً، كما أنّ للمال زكاة؟! ثم أنشَأَ الحَسَنُ يقول [الكامل]:

فُرِضَتْ عليَّ زكاةُ ما ملَكَتْ يدي ... وزكاةُ جاهي أن أُعينَ وأَشفَعا

فإذا ملَكْتَ فجُدْ فإنْ لم تستطعْ ... فاجهَدْ بوُسْعِكَ كلِّه أنْ تنفَعا


(١) تاريخ مدينة السلام ٨/ ٢٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>