للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مرور الأيام شِياعًا وكثُرَ أتْباعُه فيه من أهل بلدِه، وتَظاهَرَ في أحكامِه وتدبيرِ أمرِه بالعَدْل التامّ والتسويةِ بين القويّ والضّعيف والقريبِ والبعيد، إلّا فيمَن نافَرَه في مذهبه وتظاهره، فكان فيهم على ما تقَدَّم، إلّا أنه كان يتلطَّفُ في ذلك حتّى لا يُتحدَّثَ عنه إلّا بالظاهِر من أمرِه، فحَسُنت أحوالُ أهلِ بلدِه في ذلك في دُنياهم، وكان من التواضُع وحُسن التمشيَةِ بحيثُ لم يَفترِقْ حالُه أيامَ إمْرتِه وأيامَ غيرِها قبلَها، وسَاسَ بلدَه أجملَ سياسة، وكان جيِّدَ التدبير حسَنَ الرأي في دُنياه، وَفِيَّ العهدِ جَزْلًا، حَليمًا متخلِّقًا، لا يَضيعُ عندَه حقٌّ لأحد، ولا يَنفُقُ عندَه الجاه، بل كان أولادُه وخاصّتُه وأقلُّ أهلِ بلدِه عندَه في درجةٍ واحدة، فجَلَبَ هذا المُرتكَبُ نفوسَ كثيرٍ من الضُّعفاء، واستَهوَى الجَهَلةَ الأغبياء، واستَحسَنُوا تلك الظّواهر، ولم يعلَموا ما أكنَّتْه من سُوءِ الاعتقادِ تلك الضمائر، فشاعَ ذكْرُه، ورَحَلَ إليه كثيرٌ من جَهَلةِ ما يَليهِ من البلادِ للقراءةِ والتعليم من كلِّ مَن ينتمي من الجَهَلة إلى الخير، فضَلُّوا بضَلالِه. واستمرَّت حالُه على ذلك إلى موتِه، وقام جماعةٌ من أصحابِه بمذهبِه إقراءً وتعليمًا، وقَعَدَ بعضُهم بالجامع الكبيرِ بلُوْرْقةَ يُفسِّرُ الكتابَ العزيزَ على طريقتِهم في ذلك، وانتَقلَ بعضُهم إلى مُرْسِيَةَ، وأقرْأوا بها ذلك المذهبَ، وما زال يَفْشُو حتى ذَهَبَ، وأخَذَهمُ اللهُ بكُفرهم وأراهُم مثالًا، وكم بينَ الأمرَيْنِ ممّا أُعِدَّ لهم بعدَ حَشْرِهم، ونسأَلُه سبحانه السّلامةَ من المِحَن، ووقايةَ دينِنا من الابتداعاتِ والفتن.

توفِّي ابنُ أحلَى في شعبانِ عام خمسةٍ وأربعينَ وست مئة، وألَّف كتابَه المسَمَّى بـ"التَّذكِرة" ثم اختَصرَه، وبذلك كان ابتداؤهم في قراءتِهم، ولم يتضمَّنْ هذا الكتابُ سوى إنكارِ الحديث، والإشارةِ إلى أنَّ الأُمّةَ بدَّلت وغيَّرت كما فَعَلَ غيرُها من الأُمم، حتّى عمَّ ذلك على دَعْواه.

قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: تأمَّلْ قولَه: "يَفْشو حتى ذَهَب" وتنافُرَ أجزائه، وكذلك قولُه بعدُ: "بكُفْرِهم"، فهو تصديقُ ما آخَذْتُه به في قولِه: "ما يُستشعَرُ منه نُزوحُ هذا المذهب"، واللهُ الموفِّقُ لا ربَّ غيرُه.

<<  <  ج: ص:  >  >>