للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استقَرّا بالدارِ وتَطوَّفا عليها [ونَظَراها عُلوًا وسُفلًا] واطّلعا على جميع ما فيها، أعلَمَه أبو القاسم أنها وجميعَ ما احتَوتْ عليه له، وسَلَّمَها إليه وأقرَّه فيها وانصَرفَ عنه، ولم يزَلِ المنصُورُ بعدَ ذلك شديدَ العناية بأبي موسى راعيًا له مُفيضًا عوارفَه عليه متعهِّدًا أحوالَه متبرِّكًا [به وبرؤيتِه] وقَدَّمهُ إلى الخُطبةِ في جامعِه الأعظم المتّصل بقصرِه حين أتمَّ بناءه، فكان أولَ خطيبٍ به، واستمرَّ حالُه معَه على ذكْرٍ من التنويهِ به واعتقادِ الخير التامِّ فيه، ولمّا حضرَتِ المنصورَ الوفاةُ عَهِدَ أن يتوَلَّى غَسْلَه أبو موسى تبرّكًا به، فكان كذلك (١)، وكان أبو العبّاس القورائيُّ على عادتِه في التنكيتِ على الناسِ والنَّيل منهم يقولُ إذا رأى أبا موسى: الصُّفرةُ في الوجهِ كَنْزٌ من الكنوز!

وأخبرَني (٢) غيرُ واحدٍ ممن أثقه أن الفقيهَ المتفنِّنَ الوَرِعَ المُجمَعَ على فضلِه أبا سَعِيد يَخْلفتين ابن تنفليشت بن إبراهيمَ المتراريَّ البوغاغيَّ، رحمه الله، كان متى أشكَلَ عليه شيءٌ من عِلم العربيّة تعرَّض لأبي موسى في طريقِه الذي جَرَتْ عادتُه بالمرورِ عليه من دارِه متوجِّهًا إلى مجالسِ المنصُور أو إليها منفصِلًا عنه، فيَستفتيهِ فيما يَعرِضُ له، وأبو موسى راكبٌ، فيهُمُّ بالنّزولِ إليه والمُواعَدةِ معَه في الوصُولِ إلى منزلِه أو الاجتماع به في أحدِ المساجدِ القريبة من موضع تلاقيهما أو الوقوفِ معَه حتى يَفرُغا من مُحاورتِهما، فيأبَى أبو سَعِيد من ذلك كلِّه إلا مماشاتَهُ على قدمَيْه، وأبو موسى راكِبٌ، فكان أبو موسى يَقلَقُ لذلك كثيرًا تواضعًا منه وإجلالًا لأبي سَعِيد، ولا تسَعُه إلا مساعدتُه، فَيأخُذُ معَه فيما قصَدَ


(١) نقل ابن مرزوق في كتابه: "المسند الصحيح الحسن" الحكاية المذكورة هنا من قول المؤلف: "ولما نمي إلى المنصور" إلى آخرها. وقد استفدنا من نقل ابن مرزوق الحرفي عن المؤلف في المقابلة وملء المحو الواقع في نسختنا الوحيدة، ومن المعروف أن ابن مرزوق كان يملك نسخة موثقة من الذيل والتكملة وصل إلينا بعض أجزائها. انظر المسند الصحيح الحسن: ٣٤١ - ٣٤٣ تحقيق الدكتورة ماريا خيسوس بيغيرا.
(٢) نقل ابن مرزوق في المسند أيضًا هذه الحكاية من هنا إلى قوله: نفعه الله. انظر المسند الصحيح الحسن: ٣٤٣، وزاد ما يلي: "وكان أبو سعيد هذا كبير الشأن أيضًا نفع الله بجميعهما بمنه".

<<  <  ج: ص:  >  >>