للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتذكير، فرَأسَ فيها أهلَ عصرِه بحُسن الصّوت وغَزارة الحفظِ وإتقان الإيراد والصِّدق والإخلاص في وصَاياهُ وتذكيرِه، فنفَعَ اللهُ به خلقًا كثيرًا في بلادٍ شَتّى، وكان آيةً من آياتِ الله في سُرعةِ الحفظ.

قال أبو زَيْد الفازَازيُّ: كنتُ بحضرةِ مَرّاكُشَ أصنَعُ مجالسَ وَعْظٍ في أنواع يقومُ بها على رؤوس الناس الواعظُ أبو عبد الله، يعني هذا، في يوم الاثنينِ والخميس من كلِّ أسبوع، وكان حَسَنَ الصّوت، فصيحَ اللّسان كثيرَ البيان، وكان يأتي منزلي فأكتُبُها له، وكان يرغَبُ إليّ أن أرفَعَ صَوْتي عندَ الكتابة لأُسمِعَه، فما رأيتُ أسرعَ حفظًا منه، ما أكاد أُكمِلُها معَ ما فيها من قصائدَ إلا وقد حَفِظَها، وكان سُكناه مَرّاكُشَ باستدعاءِ المنصُور، من بني عبد المؤمن، إيّاه لذلك، وكانت ألطافُه تَتوالَى عليه إلى أن توفِّي، فحَظِيَ كذلك عندَ ابنِه الناصِر، وبالَغَ في الإحسان إليه إلى أن توفِّي، وجَرى المستنصِرُ ابنُه في الاحتفاءِ به والاحتفال في صِلاتِه مَجْرَى أبيه وجَدِّه، [ولم يكنْ يَدَّخرُ] من عَطاياهُم قليلًا ولا كثيرًا، إنّما كان يَصرِفُ ما يصِلُ إليه [من بني عبد المؤمن] وغيرِهمِ في الفقراءِ والمساكين والمحتاجينَ وتجهيزِ الضَّعيفاتِ إلى [أزواجِهنّ] هذا كان دأْبَه إلى غايةِ عُمُرِه نفَعَه الله.

وقال أبو عَمْرو بنُ سالم (١)، [نَقْلًا عمّن حدَّثه] من طلبةِ مَرّاكُشَ قال: كان أبو عبد الله الواعظُ الأعمى من أحفظِ الناس [ولا أدري مِن أيِّهما] أعجَب: أمِن سُرعة حِفظِه أم مِن سُرعةِ خاطِرِ أبي زيدٍ الفازازيِّ الذي كان [يُمِلي الخُطَبَ] والأشعارَ ارتجالًا؟ (٢).

قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: ولابن الحَجّام كتابٌ حَفِيلٌ في الوَعْظِ سَمّاه "حُجّةَ الحافظين ومَحَجّةَ الواعظين" معظَمُ ما أودَعَه [فيه مِن كلام] أبي زَيْد


(١) انظر الذيل (٥/ الترجمة ١٦٤).
(٢) تحدث الرعيني عن سرعة بديهة الفازازي وقال: "شاهدته مرارًا ينظم القصيدة من أربعين بيتًا إلى سبعين فيكتبها في القرطاس كأنما هو لها ناقل لا قائل وراسم لا ناظم".

<<  <  ج: ص:  >  >>