للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقَدِمَ الأندَلُسَ وتجوَّلَ ببلادِها، وأخَذَ عنه من أهلِها: آباءُ جعفر: الجَيّار وابنُ يحيى بن عَمِيرةَ وابن يوسُف. . . [وأبو] الحَجّاج بن عليِّ بن عبد الرزّاق، وأبناءُ حَوْطِ الله، وأبو الرّبيع بن سالم، وأبَوا عبد الله: ابنُ محمد بن صَالح وابنُ سَعِيد الطَّرّازُ، وأبو الحَسَن بن عليِّ بن سَمْعانَ، وأبو [عَمْرو] بنُ سالم، وأبو القاسم المَلّاحيُّ، وابناه: عبدُ الواحِد وعليّ.

وكان شديدَ الحَياء، وَرِعًا كثيرَ الصَّدَقة، مُثابِرًا على أعمالِ البِرِّ، زاهدًا في الجاه، مُنقبضًا عن رؤساءِ الدنيا، مُداخِلًا لأهل العلم، متحبِّبًا إلى طلَبتِه القاصدينَ إليه للأخْذِ عنه، مُنبسِطًا معَ أهل الدِّين والفَضْل، عالمًا بأصُولِ الفقه والتصوُّف، فقيهًا شافعيًّا، متّسعَ الرّوايةِ في الحديث، ولم يكنْ ضبطُه بذلك. ومن مصنَّفاتِه: "الرَّوضةُ الأنيقة".

انتَحلَ أوّلَ قدومِه الأندَلُسَ الوعظَ والتذكيرَ، واستمرَّ على ذلك زمانًا، ودخَلَ مَرّاكُشَ وأغماتِ وَريكةَ فيما قيل، ووَعَظَ بهما ونفَعَ اللهُ به خَلْقًا كثيرًا، ثم تخَلَّى وانقَطعَ إلى خدمةِ الله تعالى وأقبَلَ على العبادةِ والمجاهدة وآثَرَ الخُمولَ والخَلْوةَ إلّا معَ طلبة العلم، ولزِمَ سُكنى رُوَيْضةٍ خارجَ غَرْناطة.

وأرسَلَ إليه وإليها أبو إبراهيمَ إسحاقُ بن أبي يعقوبَ بن عبد المؤمن (١) وزيرَهُ راغبًا منه في الوصُولِ إليه، فأبَى من ذلك بُعدًا من التظاهُر وفِرارًا من مُلابسةِ أبناء الدُّنيا، فبَيْنا أبو زكريّا بموضِع سُكناه سَمِع قَرْعَ بابِه، فقام إلى فَتْحِه، فإذا الأميرُ أبو إبراهيمَ معَ أحدِ غِلمانِه، فدَخَلَ عندَه وقال له: جئتُ إليك إذْ لم تُرِدْ أن تصلَ إليّ، فاشتَدَّ قلقُه لذلك وقال له: أصلَحَك اللهُ، هذا أمرٌ لا يَهُونُ عليّ ولا يَحتملُه حالي، فقال له أبو إبراهيم: لا بدَّ منَ اجتماعِنا إمّا بوصُولي إليك وإمّا بوصُولِك إليّ، فقال: إذا [كان] لا بدَّ من ذلك فعسَى أن يكونَ بموضع خارجَ البلد خامِل لا يُؤبَهُ له ولا يُفطَنُ لتلاقينا فيه، وإذا أردتَ فتقَدَّمْ


(١) ذكره ابن الخطيب في سرده لولاة غرناطة (انظر الإحاطة ١/ ١٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>