للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتحرَّفَ حينًا بالتِّجارة في العِطْر، وعلى الجُملة فكان من أجمعِ الناس لخِصال الخَيْر وممّن اتُّفِق على فضلِه وما أعَزَّ هذا الصّنف!

قال أبو القاسم ابنُ الطَّيْلَسان: سألتُه يومًا عن ما يَدَّعيه قوم من المُناجاة والمكاشَفة، فقال لي: كنتُ ليلةً من اللّيالي قد قُمتُ إلى وِرْدٍ كنتُ ألتزمهُ فتوضّأتُ وتطيَّبتُ بماءِ الوَرد القُرطُبي على جاري عادتي، وتنفَّلْتُ بما شاء الله، ثُم إنّي قَعدتُ في مُصَلّايَ وجعلتُ أُفكّرُ وألومُ نفسي على التقصير في العمل وأقولُ: يا لَيْتَ شِعري! هل عَملي هذا متقبَّل؟ فنُوديتُ: ما أحببتَنا حتى أحببناك، ولا وفَّقْناك للعمل إلا وقد رَضِيناكَ وقَبِلناك، أو نحوَ هذا من القول.

وقال أبو القاسم أيضًا: أنشَدَني لنفسِه بمنزلِه بقُرطُبة [المجتث]:

رَضِيتُ سُقْميَ حالا ... حقيقةً لا محالا

وصار لي منهُ أُنسٌ ... إن دام لي وتوالَى

فحَلَّ في القلبِ نورٌ ... من الرضا يتَلالا

فالحمدُ لله ربِّي ... سبحانَهُ وتعالى

ثم الصلاةُ على مَن ... بَذّ الأنامَ كمالا

وكان قد أكملَ حَوْلًا متلزمَ الفراش لا يستطيعُ القيامَ لاعتلالٍ بركبتيه (١)، فقال هذه الأبيات، فمَنَّ اللهُ عليه بالبُرءِ وصار يتَصرَّفُ في جميع حوائجِه.

أسمَعَ الحديثَ طويلًا بمالَقةَ ثم بقُرطُبة لمّا استَدعاه إليها أبو العلاءِ إدريسُ ابنُ المنصور الملقَّبُ بعدُ من ألقابِ الخلافة بالمأمون، إذْ كان واليًا عليها، وكان ابنُه عبدُ المجيد متّصلًا بأبي العلاءِ هذا، فأقام بها أيامَ ولايته إيَّاها، وكان أبو العلاءَ يُعظّمُه وَيعرِفُ حقَّه وُيكثرُ التبرُّكَ به، ثمّ عاد إلى مالَقةَ لمّا فصلَ أبو العلاءِ عن قُرطُبة وأكبرُ أسباب إقامتِه معَه تأنيسُ ولدِه عبد المجيد المذكور، ثم وَليَ أبو العلاءِ إشبيلِيةَ فاستَدْعاه أَيضًا إليها وألَحَّ عليه في الوصول فتوجَّه نحوَه وأقام عندَه معظَّمًا


(١) في ق: "بركبته".

<<  <  ج: ص:  >  >>