للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانونُ الآخِر يالسُّريانيّة، وهو طُوبة بالقِبْطيّة، فقيل له: وما الذي حمَلَك على هذا التقدير؟ فقال: إنّي رأيتُ المدائنَ فُرِّقت على الصِّبيان والأطفال يعبَثُونَ بها ويَعِيثونَ فيها ثم يأكُلونَها، يُورّي عن المدائنِ وهي البلاد بالمدائن (١) التي عُهِدَ ببلادِ المغرِب والأندَلُس عمَلُها في النَّيْروز منَ الدّقيق الحُوَّارَى الملتُوتِ بالزَّيت المُحكَم العَجْن بالماءِ المتّخَذة رُغُفًا مَفارَيد أو مَثَنَّيات أو مُثلَّثات كيفَما اختير عَملُها، وتُنقَشُ وتُصنَعُ فيها أشكالٌ من العجين مرَكَّبة على البَيْض المصبوغ بالحُمرة أو الخُضرة أو بغر ذلك من الألوان بحسَبِ المتخيَّر لها ثم يُفدَّمُ الجميعُ بالزَّعفَران ويُطبَخُ في الفُرن ويُجمعُ إليه أصناف الفواكه، ويَحتفِلُ كلُّ إنسانٍ في انتخابِها وتجويدِ صَنْعتها ويتَباهى في الإنفاق فيها على قَدْر وُسعِه واعتنائه بذلك، ثُم يُدفَعُ ذلك كلُه إلى الأصاغر إدخالًا للسرور عليهم وتوسيعًا في الترفيه لأحوالِهم وتبشيرًا بخِصبِ عامِهم وتفاؤلًا لبَسْط الرِّزق فيه لهم، فيَبهَجُونَ ويتمكّنُ جَذَلُهم ويتفاخَرون بمقاديرِها بينَهم، ويتَمادَى [ذلك] (٢) لديهم أيامًا بحسَبِ كثرتِها وقِلّتِها، ثم يأتونَ عليها أكلًا وتفكُهًا بما مَعها من أصنافِ الطُّرَف والفواكه، فكان فعلُ أبي العبّاس هذا سببًا في فَسْخ ذلك التقديم وصَرْف أولئك الأصاغِرِ عن تلك الوِلايات في البلاد، وله أشباهٌ لهذه الفَعْلة معَ الأُمراء، حتّى استَجْفَوه واستَثْقَلوه، ومعَ ذلك فلم يزَلْ يُحاضرُ طلبةَ العِلم بمجلسِ المنصُور الخاصِّ بهم ويُذاكرُهم بينَ يدَيْه مَرْعيَّ الجانب ملحوظًا بعَيْن التكرِمة محترَمًا لشاختِه واضْطلاعِه بالمعارِف إلى أن وُجِدَ منه يومًا بمجلس المنصُور ريحُ مُسكِر فاستُثبِتَ أمرُه بالاستنكاه وتُحقِّق، فعند ذلك أمَرَ المنصورُ بإقامةِ الحدِّ عليه وجَلْدِه بين يدَيْه، ولمّا بلَغَ جالدُه أربعينَ جَلدةً أشار إليه أبو العبّاس بأنْ يَكُفَّ وابتَدَر لباسَ ثيابِه وقال للمنصور: أنا أحد


(١) انظر بعض ما قيل في هذه المدائن من شعر ونثر في اختصار القدح (١٠١، ٢٠٢)، والمغرب ١/ ٢٩٤.
(٢) خرم في م.

<<  <  ج: ص:  >  >>