للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُجِيدًا، صَدْرًا في محُسِني النَّظْم والنّثر، بارعَ الخَطّ جميلَ الوِراقة، رَوى قطعةً صالحةً من الحديث وتفَقَّه، ولم يزَلْ على خيرِ حال واستقامةِ طريقة صَدْرَ عُمرِه حتى كان يُعرَفُ بالزاهد لوَرَعِه وفضلِه، حتّى استكتبَه أبو جعفرٍ أحمدُ بن محمد بن حَمْدينَ قاضي الجماعة بقُرطُبة آخِرَ أيام اللَّمْتُونيِّين، وحَظِيَ عندَه واستَخلصه لنفْسِه لِما تقَرَّر عندَه من موجِبات ذلك، ثم لمّا همَّ أبو جعفرٍ هذا بإثارةِ الفتنة التي أنشَأَها بعدُ، فرّ أبو الحَسَن هذا عن قُرطُبة ولحِقَ بإشبيلِيَةَ منقطعًا إلى العبادة في بعض روابطِ قُرى إشبيلِيَةَ على خيرِ متّصَل، لا يتقوَّتُ إلّا من مالِ صديقِه أبي الأصبَغ الباجِيّ لعلمِه بطيب مكسَبِه لوراثتِه إياه عن أسلافِه؛ فقَطَعَ أبو الحَسَن هذا بحالتِه هذه مُدّة.

ثم إنّ أبا إسحاقَ برازَ بن محمد المَسُوفيّ (١) العاملَ بإشبيلِيَةَ لأبي محمد عبد المؤمن بن عليّ، التَمسَ كاتبًا يَكتُبُ عنه، فدُلَّ عليه، فلم يَرُعْه إلا رسولُه عنه، فلمّا وصَلَ إليه ألزَمَه الكتابةَ عنه فتقَلَّدها على كُرْه وتقيَّة على نفسِه، ثم نَشِبَ في صُحبةِ الملوك بالكتابة عنهم، وارتَسَم في جُملة خُدّامِهم، وعَدَلَ عن طريقتِه الأولى المُثْلى، فكتَبَ بعد أبي إسحاقَ هذا عن الأمير أبي حَفْص بن عبد المؤمن وتوَجَّه معَه إلى تِلِمْسين، ثُم عن أبي محمد عبد المؤمن بعدَ مقتل أبي جعفر بن عَطِيّة، ثم عن أبي يعقوبَ بن عبد المؤمن، وهُو والٍ بإشبيلِيَةَ، ونال دُنيا عريضة، وكانت له (٢) منهم منزلةٌ جليلة، وكان ممَدَّحًا، وأصهَرَ إليه أبو عبد الله بن زَرْقُون.

قال صاحبُه أبو الأصبَغ الباجِيُّ المذكور: دخَلْتُ إليه أَعُودُه في مرضِه الذي توفِّي منه قبلَ وفاتِه بثلاثةِ أيام، فأنشدَني لنفسِه متندِّمًا من أفعالِه وسُوء انقلابِه [الطويل]:


(١) كان من رجال المرابطين الذين التحقوا بالموحدين في عهد عبد المؤمن، وأخباره مذكورة في البيان المغرب لإبن عذاري وغيره.
(٢) سقطت من م ط.

<<  <  ج: ص:  >  >>