للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم عاد الكتمانُ، وتزايد الألمُ بالمعدة، وصار يحسُّ بشيء ثقيل على معدته، بحيث كان يقول: هذه بقايا الغبن مِنْ سنة تسع وأربعين وتوابعها، وينشد قولَ الفرزدق:

قوارِضُ تأتيِني ويَحْتَقِرُونَها ... وقَدْ يملأ القَطْرُ (١) الإنَاءَ فيفعمُ

وقال سبطُه: إنه أنشده في مرضه هذا:

عمارة الجسم نَفَسْ ... وهدُمُه إذا احتَبَسْ

ولم يترك رحمه اللَّه جمعة، بل ولا جماعة. نعم، لم يستطع صلاة عيد الأضحى، وكان يوم الثلاثاء بعد أن سمعنا عليه "فضل عشر ذي الحجة" لابن أبي الدنيا (يوم عرفة) (٢)، وهو آخر شيءٍ سمعناه، بل سُمِعَ عليه مطلقًا. وصلى الجمعة التي تليه، توجه وهو راكب والناس في خدمته، حتى صلينا معه الجمعة في الصف الأول برواق البسملة مِنْ جامع الحاكم، وطلع بعد فراغه مِنْ باب النَّصْر، فركب وهو بالطيلسان كما مضى، وسأله بعضُ العوامِّ وهو ظاهرٌ مِنَ الجامع الدُّعاءَ، فقال له بعزمٍ: غفر اللَّهُ لَك.

وتوجَّه إلى الحلبية، فاستعطف خاطرها في انقطاعه عنها، وحالَلَها واسترضاها.

وكان رحمه اللَّه قد استشعر بالوفاة، بحيث كان إذا اخبر بالمنامات وشبهها مما يدلُّ على رجاء صحَّته وحصُول بُرئه، يقول: أمَّا أنا، فلا أرَاني إلَّا في تناقُصٍ، وما أظنُّ الأجلَ إلا قد قرُبَ، ثم ينشد:

ثاءُ الثَّلاثينَ قد أوهت قُوى بَدَني ... فكيف حاليَ في ثاء الثمانينا

ويقول: اللهُمَّ حرمتني عافِيَتك، فلا تحرمني عفوك. انتهى.

وقد سأل الملكُ الكاملُ الشَّرفَ أبا المكارم محمد بن عبد اللَّه بن


(١) في (ب): "القطن".
(٢) ما بين قوسين ساقط مِنْ (ب).