للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالحق، وحاشى لهذا الصَّاحب أن ينطق عن الهوى، ولفد ظفَرَتْ حبائلُ فكرته (١) بكلِّ سانحة من ظباء البديع وبَارحة، وخطبته من "يتيمة الدهر" و"دمية القصر" كل قرينة صالحة، وأتى طرسُه بكلِّ دُرَّةٍ مونقة معجبة، وأخذ نقسه (٢) -الذي هو أبهج من النَّضار- بمجامع القلوب، لشدة ما بينهما في اللَّون من الشَّبَه وأطنب في فَنَّي التورية والاستخدام، وهما قسما البدائع والكواكب الدراري فاستخدم فيما أطاعته من الاستخدامات رقائق الألفاظ فتمَّ وصفها بالجواري، وورّى فتوارى منه المُجاري، وحُقَّ له الهرب عند سماع تلك الاستخدامات الرائقة والتواري. فاق لما جارى ابن سرايا وابن جابر والموصلي. أما الحِلِّي، فالشيعي المسرف قاصر الرُّتبة عن السُّني التقي، وأما الأعمى، فأنَّى يستوي مع ذي النظر السَّوي، وأما العز، فأبو بكر أفضل من

علي.

نعم، هذا الذي نظر الأعمى إلى أدبه، واستفاض تقدمه، فحكم القاضي الفاضل بموجبه، وزاد كمالًا نقص عنده في النظم أبو تمام، وخرق العادة في النثر، فلا كرامة لصاحب "المقامات" ولا إقدام، وأمَّا قُدامة، فحقُّه أن يدرس كتاب تأخر المعرفة، ويقول لعصريِّه نفطويه: لا شكُّ أن ابن حجة مقدَّم على ابن عرفة، وظهرت من حلاوة نظمه حموضةُ "الرُّمانية"، وشهد عبد القاهر أن "الحموية" أشهى من "الجرجانية"، وأشار ابن أبي الأصبع أن يعقد البِنصِر على إمامته، واتَّفق السَّكَّاكي والخلخالي وابن الصائغ على إتقان صياغته في صناعته، ولكن الأوْلى كفُّ العنان عن الجري في الميدان عن ذكر هؤلاء الفحول، والاقتصار على الكلم الجوامع، لئلا يُمَلَّ ما يملى، فأقول: إذا دعا هذا الإمام كل قديم ومحدث إلى الشهادة له بالإجادة في فنون النظم أجابه، وإذا ذُكر أبواب الإنشاءُ، فأبو بكر عليه الرضوان مقدم على جمع الصحابة (٣)، والسَّلام.


(١) في (ب، ط): "فكرتي".
(٢) في (ط): وأخف نفسه. والنقس: هو المِداد الذي يكتب به.
(٣) في (ط): جميع أصحابه.