للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكل هذا يسيرٌ بالنِّسبة لما أودعه اللَّه عز وجل في قلبه منَ النُّصح والرَّغبة في نشر العلم. ولذلك نشر إليه ذكره في الآفاق، ورفعه إلى المحل الأعلى، بل وراء هذا كلِّه أنَّه لم يحدِّث "بصحيح مسلم" -فيما علمتُه- إلَّا بعد وفاة الشَّيخ زين الدِّين الزركشي، خاتمة أصحاب البياني فيه بالسماع، لكونه كان أعلى سندًا منه.

[[استجلاب الخواطر]]

وأما استجلاب الخواطر، فكلُّ ما ذكرناه مُقتضٍ لذلك مِنَ الحلم والبَذْلِ والشَّفقة والسَّتر، وكفى بها دلالة على حُسْنِ العِشْرة. وطال ما كان ينهرُ أتباعه بسبب مقته بعض الطَّلبة، لظنِّه أنَّ ذلك يرضيه، وربَّما قال له: اخرج أنت ودعه. إلى غير ذلك مما يكتفي بدونه مِنْ مثله في علوِّ مقداره، وطال ما كان يخُصُّ مَنْ يفهم عنه بعضَ جفاء بمزيد الإقبال، بحيث لا يفارقه إلا وهو في غاية الحمد والاغتباط، فمنهم مَنْ يستمرُّ على المودَّة، ومنهم مَنْ يغلِبُ عليه الحسَدُ.

وبلغني عَنْ بعض الفُضلاء ممَّن كان هواه عند غيره أنَّه كان يقول: مِنْ العجيب أنَّني بمجرَّدِ لُقِيِّ الذي أهواه أمقُته، فإنه يبادرني بمدِّ يده، وصاحبُ التَّرجمة لا ينقضي مجلسي معه إلا وقد ملكني بلذيذِ خطابه، وكثرة آدابه، وبديع محاضرته، ولطيف محاورته.

[[تواضعه:]]

وأما التواضع: فإلى غاية يكون في ذلك النهاية. ولقد كنتُ جالسًا معه مرَّة، فخدرت رجلُه، فأراد أن يقوم فأشار إليَّ أن آخُذَ بيده، ففعلتُ وحرَّك رجله قليلًا، فوقع في خاطري تقبيلها، فتأثَّر مِنْ ذلك إلى الغاية، وهكذا كان دأبُه، لم يكن يُمكِّنْ أحدًا مِنْ تقبيل يده إلا بجهدٍ، مع أنَّه -فيما بلَّغنيه بعضُ مَنْ شاهده- قبَّل يدَ شخصٍ مِنْ قُدماء مَنْ أخذ عنه ممَّن أكثر مِنْ قراءة الحديث والعناية به (١) لتوسُّم الخير فيه.

وكان عند إرادة دخول بيته عَقِبَ الدَّرس أو غيره، يقفُ مع مَنْ يقصدُ


(١) "به" ساقطة مِنْ (ب).