للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وغير ذلك من أحواله: كنحو ما خرج من الشّبه من بعده وارتفاعه، وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري:

دان على أيدي العفاة ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع، كقوله (١):

كالبدر من حيث التفتّ رأيته ... يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا

في أمثال لذلك تكثر. ولم أعرض لما يشبّه به من حيث المنظر، وما تدركه العين، نحو تشبيه الشيء بتقويس الهلال ودقّته، والوجه بنوره وبهجته، فإنّا في ذكر ما كان «تمثيلا»، وكان الشّبه فيه معنويّا.

[فصل]

وإن كان ممّا مضى، إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثّلا، فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى غير طلبه بالفكرة وتحريك الخاطر له والهمّة في طلبه. وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشدّ.

ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزيّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضنّ وأشغف، ولذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال (٢): [من البسيط]

وهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي

وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدّم المطالبة من النفس به.

فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمّد ما يكسب


(١) البيت للمتنبي في ديوانه وفي التبيان للعكبري على شرح ديوان المتنبي ص ٩٥، والبيت من قصيدة يمدح بها علي بن منصور الحاطب والإيضاح ص ٢٠٧، وفي نسخة التبيان «نورا ثاقبا»، والمعنى: هو مثل البدر حيثما كان ترى نوره، وكذلك حيثما كنت من البلاد ترى عطاءه، وقد غمر الناس قريبهم وبعيدهم، والثاقب: المضيء الذي يثقب ضوؤه الظلام ويبدّده.
(٢) البيت للقطامي في ديوانه، وموجود في لسان العرب (صدى). والصدى: شدة العطش، وقيل: هو العطش ما كان، صدى يصدى. صدى، فهو صد وصاد وصديان والأنثى صديا. الغلّة: شدة العطش وحرارته، قلّ أو كثر. [لسان العرب: صدى، غلل].

<<  <   >  >>