للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك من ابنه كما سرّه نفس الشعر حين قال في وقت آخر (١): [من البسيط]

الله يعلم أنّي كنت منتبذا ... في دار حسّان أصطاد اليعاسيبا

فإن قلت: إن التشبيه يتصوّر في مكان الصّبغ والنّقش العجيب، ولم يعجب حسّان هذا، وإنما أعجبه قوله: «ملتفّ»، وحسن هذه العبارة، إذ لو قال: «طائر فيه كوشي الحبرة»، لم يكن له هذا الموقع، فهو أن يكون مشبها ما أنت فيه،

فمن حيث دلالته على الفطنة في الجملة.

قيل: مسلّم لك أن نكتة الحسن في قوله: «ملتفّ»، ولكن لا يسلّم أنه خارج من الغرض، بل هو عين المراد من التّشبيه وتمامه فيه، وذلك أنه يفيد الهيئة الخاصّة في ذلك الوشي والصّبغ وصورة الزنبور في اكتسائه لهما، ويؤدى الشبه كما مضى من طريق التفصيل دون الجملة، فما ظننت أنّه يبعده عما نحن بصدده، هو الذي يدنيه منه، ولقد نفيت العيب من حيث أردت إثباته.

فصل في التشبيه المتعدّد والفرق بينه وبين المركّب

اعلم أنّي قد قدّمت بيان المركّب من التشبيه، وهاهنا ما يذكر مع الذي عرّفتك أنه مركّب ويقرن إليه في الكتب، وهو على الحقيقة لا يستحق صفة التركيب، ولا يشارك الذي مضى ذكره في الوصف الذي كان له تشبيها مركّبا.

وذلك أن يكون الكلام معقودا على تشبيه شيئين بشيئين ضربة واحدة، إلّا أن أحدهما لا يداخل الآخر في الشّبه، ومثاله في قول امرئ القيس (٢): [من الطويل]

كأنّ قلوب الطّير، رطبا ويابسا، ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي


(١) البيت في الكامل للمبرد ١/ ٣٤٢. واليعسوب: طائر أصغر من الجراد، وقيل: أعظم من الجرادة، طويل الذنب لا يضم جناحيه إذا وقع، تشبه به الخيل في الضّمر. واليعسوب: غرّة في وجه الفرس مستطيلة، تنقطع قبل أن تساوي أعلى المنخرين، وإن ارتفع أيضا على قصبة الأنف، وعرض واعتدل، حتى يبلغ أسفل الخليقاء فهو يعسوب أيضا، قل أو كثر، ما لم يبلغ العينين. [اللسان: عسب].
(٢) البيت في ديوانه ص ١٢٩، من قصيدة له تعدّ قرينة معلقته في الجودة ومطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
والبيت في الإيضاح ص ٢٢٧، ٢٢٨، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، والإشارات ص ١٨٢، والمصباح ص ١٠٨. وهو يعني: كأن قلوب الطير رطبا. العناب ويابسا: الحشف البالي، وهو يابس التمر.

<<  <   >  >>