للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خدم المعاني والمصرّفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقّة طاعتها. فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنّة من الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، والتّعرّض للشّين.

ولهذه الحالة كان كلام المتقدّمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع، ولزموا سجيّة الطبع، أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح للمراد، وأفضل عند ذوي التّحصيل، وأسلم من التفاوت، وأكشف عن الأغراض، وأنصر للجهة التي تنحو نحو العقل، وأبعد من التّعمّد الذي هو ضرب من الخداع بالتزويق، والرضى بأن تقع النقيصة في نفس الصّورة. وإنّ الخلقة، إذا أكثر فيها من الوشم والنقش، وأثقل صاحبها بالحلي والوشي، قياس الحلي على السيف الدّدان (١)، والتوسّع في الدعوى بغير برهان، كما قال: [من الطويل]

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب (٢)

وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن ينسى أنّه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيّل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربّما طمس بكثرة ما يتكلّفه على المعنى وأفسده، كمن ثقّل

العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها (٣).


(١) الددان من السيوف: نحو الكهام. وقال ثعلب: هو الذي يقطع به الشجر، وهو عند غيره إنما هو المعضد، وسيف كهام وددان بمعنى واحد.
(٢) البيت للمتنبي في ديوانه: ٢/ ٢٣٠، من قصيدة أغالب فيك الشوق، وقبله:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
والبيت في الإيضاح: ٣٤٦، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، طبعة مؤسسة المختار. والشيات:
جمع شية وهي كل لون في الشيء مخالف معظم لونه الأصلي والضمير للخيل التي يصفها.
(٣) لا يفهم من هذا الكلام أن عبد القاهر يمنع من التحسين اللفظي أو يقف معارضا له، بل إن ذمه منصب على من بالغ في هذا الأمر حتى جعل هذا التحسين همّه ودأبه ونسي غرضه، وتناسى وظيفة هذا التحسين ودوره في تحقيق مطابقة الكلام لمقتضى الحال خلافا لمتأخري البلاغيين الذين قصروا دور المحسنات اللفظية على وظيفة التزيين والتحسين دون أن يكون لها أدنى دور في تحقيق المطابقة، شأنها في ذلك شأن العلمين الآخرين (المعاني والبيان) وقد فصلت القول في هذه القضية في أكثر من موضع من كتبي، من ذلك الفصل الذي عقدته لذلك في رسالتي للماجستير عن الجهود البلاغية للإمام الطيبي، ط مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة. وقد بينت فيها أن تلك المحسنات منها ما هو بليغ، ومنها ما هو مطابق، ومنها ما هو متكلف، فليراجع ما كتبناه هنالك.

<<  <   >  >>