للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[التقليد]

لم أكد أفرغ من قراءة ما تيسر لي أن أقرأه في هذا اليوم وما قبله حتى عاودني الفكر في أصول ما قرأت من كلام الكتّاب والشعراء، ووقفت أستعيد في نفسي تلك التيارات الكثيرة التي تموج بنفوسهم من تحت اللفظ والعبارة والمعنى والغرض. ولقد ظننت -حين أقدمت على قبول كتابة هذا الباب من الرسالة- أن انبعاثي للكتابة وطول ممارستي لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فإن أكثر ما حملت نفسي على قراءته يكاد يؤرِّث النار كلما خبت، ويعيدها جَذَعة (١) كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح مصيرُه وعقباه.

إن أصحاب هذا اللسان العربي والناطقين به قد أصابتهم في عصور متتابعة مصائبُ الجهال والغفلة والضعف فتحطمت عروش الدولة في بلادهم كلها وعدا عليها كل عادٍ من ذؤبان الأمم فاستذلوهم وأخذوهم وفتكوا بهم وقَضْقَضُوا أوصالهم بالعنف والاستبداد تارة، وبالرِّفق والسياسة المتدجِّية، تارة أخرى. ثم جاءت أيام بعثت من تحت الليل جمرات تفرقت ثم اجتمعت ثم استطار شرارها فرمى في كل هامدة بعض الحياة، وكذلك ثارت أحلام النائمين بتحاسينها وتخاريجها وفنونها فانتفضوا يطلبون تحقيق أنوار لياليهم في سواد أيامهم، ولكنهم قاموا وهبوا على غير نظام ولا تدبير ولا تعبئة فانتشرت القوى الجديدة وتمزقت، فضعفت وأخفقت، ولم يكن منها ما كان يُرْجَى لها من الغلبة والظفر والسيادة، وبقي الضعف في هذه الأمم العربية هو عمادها وعماد أعمالها في عصر من القوة الأوربية الطاغية يمتد ويتراحب وينساح في الأرض كلها متدافعًا متدافعًا لا يقف ولا يفتر.

ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقليد -تقليد القوي- أشد


(*) الرسالة السنة الثامنة (العدد ٣٤٣)، ١٩٤٠ ص: ١٤٣ - ١٤٥
(١) جَذَعَة: عادت كما بدأت، ولا يقال ذلك إلا في الشر.