للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القول في "الشعر"]

ولفظ "الشعر" في لغتنا، وفي سائر اللغات التي عرف له فيها اسم متميز، قديم موغل في القدم، محدود الدلالة عند جميع واضعيه، قبل أن تكثر فيه لجاجة عصرنا وثرثرته، في لغتنا وفي غير لغتنا. هو لفظ موضوع وضعه الأوائل والأسلاف القدماء للدلالة على ضرب من ضروب "الكلام"، يفترق افتراقا ظاهرا واضحا عن سائر ضروبه التي تجرى على ألسنة المتكلمين باللغة. ولولا أنهم قد وجدوا هذا الفرق الظاهر وجدانا ظاهرا في أنفسهم لما كان بأحد منهم حاجة إلى تخصيص ضرب من "الكلام" الذي يجرى على ألسنتهم باسم متميز. . فإن الله تعالى حين خلق هذا الخلق، أنعم عليهم بالقدرة على "النطق" أي على "الكلام المسموع"، وأودعهم قدرة كامنة أخرى هي أجل وأعظم، وهي القدرة على "البيان" بهذا الكلام المركب، عن كل ما يمكن أن يجول في أنفسهم وفي ضمائرهم، وهذا الذي يجول في الأنفس والضمائر غيب مستور لا يمكن تحديده أو تفسيره تفسيرا واضحا، وكيف يجئ وكيف يذهب؟ وبهذه القدرة الكامنة قضى ربك أن يلتمسوا في بعض صور "الكلام"، قدرا من الكلام المركب أبلغ وأخفى وأغمض في الإبانة عن دخائل نفوسهم. أي هو قدر زائد على ما هم محتاجون إليه من "الكلام" في التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات الحاضرة وكذلك فعلوا ما قضى ربهم عليهم.

وصار في "الكلام" ما هو مطلوب بالضرورة للتفاهم والتعايش وقضاء الحاجات، وصار فيه أيضا ضرب آخر من "الكلام" موسوم بالتجويد في ألفاظ اللغة وتراكيبها، تعبيرًا عن أغمض ما يجول في أنفسهم، أو في أنفس بعضهم، من معان لا تلجئهم إليها الضرورة إلى الحاضرة في التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات. وهذا الضرب الأخير، كما هو ظاهر، متضمن بطبيعته للمعاني المختلفة الوجوه والغايات، والتي تنبع أصلا من القلب والعقل والنفس ومن تجارب الحي في الحياة. وعلى مر الزمن، صار الفرق واضحا وضوحا لا يكاد يخفى بين كلامين: كلام التعايش والتفاهم، وكلام البيان عن النفس. وعلى مر