للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ودويًّا وهدًّا شديدًا شديدًا، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة.

وإذا بحر يموجُ لعيني أسمعُ هديرَه وزئيره وزمجرة أَمواجِه في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدَّم يَفُورُ ويتوثَّبُ، وإذا صرخةٌ تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي: "قم إلى صلاتك، فقد أظلك الفجر! ! ". فانتبهت فزعًا وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر: "ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ولده مشويًّا ومطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها. . . . فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت" (*).

أين يعيش أحدُنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يخيَّل إليَّ أني قضيت ثماني ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلِّبها لعيني فتتقلَّب معانيها في نفسي، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكارًا تتَّسع وتتراحب وتتداعى وتتوالد ويَنْسَخ بعضها بعضًا. ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر، وما تحدثت به النفس من حديث أَكَلَ ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر، لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن. . . .

لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أَكْل ولَدِها الذي والدَتْه؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة


(*) كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" هو تاريخ المجاعات التي كانت بمصر، وقد طبع بلجنة التأليف والترجمة والنشر منذ أسابيع. وهذا الذي نقلناه من تاريخ المجاعة التي كانت بمصر في الدولة الأيوبية سنة ٥٩٦ فقيل فيها: "سنة سبع افترست أسباب الحياة" (شاكر).