للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بكى، وأن القَمَر مَدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكانَ أقربَ إلي منْ أنْ يأتي آتٍ يقول هذا ابنُ أبي عتيق يمشي في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يُعرفُ فيهما البُكاءَ!

رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر إليه من جده [عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر]، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبَّى له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهّج. . . وآب إليه من جده [أبي بكر الصديق] حَنَانُ التقى وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفءَ الأبوّةِ فتأوى إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح لا ينتهي.

وكنتُ أجدُه فيما يتوقَّدُ علي من الكُرَبِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزالُ بي حتى أَنام إلى دُعابته، فإذا آلامي تطوف بي من بعيد كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرةً تتلذّعُ. ولقد أكونُ مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافرًا أبتغي أن أعكفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه (١)، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد:

مَتى تَرَ عَيْنَي مالكٍ وجرَانَه ... وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر (٢)

حِضَجْرٌ، كأمٍّ التَّوْأمَينِ توكلَتْ ... على مَرفِقَيها مُستهِلَّةَ عاشِر (٣)

فينشد أغربَ إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يحرِّك ويشير ويمثِّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يُريني ما يأتي به، إلا نَبَع الضحك من قلبي دفعة حتى ما أتماسك معه.

فكيف به اليوم وقد سكنَ كأنه دمعةٌ خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إليَّ


(١) البُدّ: الصنم الذي يُعْبَد، وهو فارسي معرّب.
(٢) الجران: باطن عنق البعير، واستعاره الشاعر للسخرية.
(٣) الحضجر: العظيم البطن الواسعه، وهو حرف ساخر الجرس والحركة.