للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فما شَجِيتُ بشيء ما شَجِيتُ به، ... كأنما اعتمَّ منه مَفْرقي بجَبَلْ

ولست أُنكر أن عُلوّ السن بالمرءِ أمر ينبغي أن يلقى له باله ويتعهده حتى لا يؤخذ على سهوة وفي غفلة، وأن الشيبَ هو النذير العريان. ولكن ما بالشيبِ من عارٍ، فنحن إنما خلقنا لنحيا ونموت، فلتكن حياتنا كلها كما بدأَتْ جهادًا متصلا جريئًا في سبيل الغاية التي نفخ الله فينا من أجلها الروح. وقبيح بامرئٍ علمته الأيام ووعظته الأسَى (١) -منذ كان أبوه الشيخ آدم إلى يوم الناس هذا- أن يجزَع أشفَّ جزَعٍ من منهل لم ينج سابق من ورُوده، ولن يَنْجُوَ من وروده لاحق.

وليت شعري ماذا يضيرني من شيبة في شعراتٍ، إذا كان قلبي لا يزال غَضًّا جديدًا كأنه ابن الأمس القريب؟ ولو قد كان ذلك ضائري لقد هانت الحياة هوَانًا يجعلها أسخف وأخفّ وأضأل من أن أحفل بها أقل حفل. وكذلك عقدت عزمي على أن أضربَ في مسالك الحياة حيث لا يعوقني وقار غثٌّ، ولا حنْبلية متزمّتة، وحيث أخبرُ الحياة على وجهها الذي هي عليه اليوم، لأعرف ما الذي ستكون عليه غدًا. فأسرعت إلى حلقات الشباب ممن تجاوزوا العشرين وأشرفوا على الثلاثين، لأرى كيف يفكرون، وانظر كيف يعملون، وأعرف ماذا يدبرون، وأعلم أين يستقبلون، فرأيت ونظرت وعرفت وعلمت، فأشفقتُ وأمَّلتُ، وخفتُ ورجوت، ولكني على ثقة من أن رحمة الله أوسع من أن تضيق بأمة ضَلَّت في بيداءِ هذه الحياة، وقد خرجتْ تضرب في جوانبها مطموسة البصر إلا ما شاء الله.

كان من أهم ما شغلني أن أسمع ماذا يقولون عما يشغل الناس جميعًا في هذه الأيام، وأن أناقشهم فيما يقولون حتى أعرف خبء نفوسهم وضمائرهم، وأن أنقل ما استطعت شيئًا مما يعتلج في هذه القلوب الشابة التي تريد الحياة الحرة الكريمة -أي تريد الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وينبغي لكل صاحب قلم أن


(١) الأُسَى: جمع أسوة، وهو ما يأْتسِي به الحزين يتعزى به، وهي أيضًا القُدْوَة.